إشتقت‭ ‬عبارة‭ “‬سوق‭ ‬الهرج‭” ‬من‭ ‬عبارة‭ ‬الهرج‭ ‬والمرج،‭ ‬وهي‭ ‬دلالة‭ ‬لفظية‭ ‬على‭ ‬شدة‭ ‬الازدحام‭ ‬وعلو‭ ‬الأصوات‭ ‬فلا‭ ‬تكاد‭ ‬حواس‭ ‬الزائر‭ ‬أن‭ ‬تلتقط‭ ‬صورة‭ ‬واضحة‭ ‬ومفهومة‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬وتكاد‭ ‬اغلبية‭ ‬البضائع‭ ‬المعروضة‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬جميعها‭ ‬من‭ ‬البضائع‭ ‬الرخيصة‭ ‬والمعاد‭ ‬تدويرها‭ ‬أو‭ ‬تصليحها‭ ‬وترقيعها‭.‬

‭ ‬ويلحق‭ ‬بسوق‭ ‬الهرج‭ ‬سوق‭ ‬أخرى‭ ‬لبيع‭ ‬الحيوانات‭ ‬بشتى‭ ‬أصنافها‭ ‬ومعظم‭ ‬تلك‭ ‬الحيوانات،‭ ‬اما‭ ‬قد‭ ‬استنفدت‭ ‬الإنجاب‭ ‬أو‭ ‬مريضة‭ ‬أو‭ ‬أو‭.. ‬وفي‭ ‬وسط‭ ‬ذلك‭ ‬الفوران‭ ‬والهيجان‭ ‬العالي‭ ‬يقف‭ ‬رجل‭ ‬حاملا‭ ‬بيده‭ ‬كتاباً‭ ‬من‭ ‬كتب‭ ‬الحكمة،‭ ‬وقرب‭ ‬قدميه‭ ‬مجموعة‭ ‬أخرى‭ ‬ينادي‭ ‬بصوت‭ ‬مبحوح‭ ‬على‭ ‬بضاعته‭.‬

‭ ‬وأثناء‭ ‬الازدحام‭ ‬تأتي‭ ‬العربات‭ ‬فتدهس‭ ‬كتبه‭ ‬وتبعثرها‭ ‬ولايبدي‭ ‬سائق‭ ‬العربة‭ ‬أي‭ ‬إعتذار‭ ‬أو‭ ‬اهتمام‭ ‬أو‭ ‬مبالاة‭ ‬لما‭ ‬حدث،‭ ‬بينما‭ ‬بائع‭ ‬الحكمة‭ ‬يلملم‭ ‬كتبه‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬وينظفها‭ ‬ويربت‭ ‬عليها‭ ‬بحنو،‭ ‬كأنه‭ ‬يداعب‭ ‬أطفاله‭ ‬الصغار‭. ‬وتقفل‭ ‬السوق،‭ ‬ولم‭ ‬يبع‭ ‬كتابا‭ ‬واحدا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬جاءه‭ ‬رجل‭ ‬عظيم‭ ‬الكرش‭ ‬يحمل‭ ‬على‭ ‬كتفيه‭ ‬رأسا‭ ‬كبيرا‭ ‬ووجها‭ ‬ينبئ‭ ‬بالبلادة‭ ‬والغباء،‭ ‬وسأل‭ ‬بائع‭ ‬الكتب‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬انتقى‭ ‬كتابين‭ ‬كبيرين‭ ‬ذوي‭ ‬صفحات‭ ‬عريضة‭:‬

‭ ‬يابائع‭ ‬الحكمة‭ ‬بكم‭ ‬تبيع‭ ‬هذين‭ ‬الكتابين؟

‭ ‬أجاب‭ ‬البائع‭: ‬وهل‭ ‬تعرف‭ ‬فردريك‭ ‬نيتشه؟

‭ ‬أجاب‭ ‬الغبي‭ ‬فورا‭: ‬لماذا‭ ‬هل‭ ‬من‭ ‬ذكرت‭ ‬قريبك‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬اظن‭ ‬أنه‭ ‬خدم‭ ‬معي‭ ‬في‭ ‬الجيش‭ ‬وكان‭ ‬صديقي‭ ‬المقرب‭ ‬والكلام‭ ‬في‭ ‬سرك‭ ‬طالما‭ ‬كنا‭ ‬نسكر‭ ‬سوية‭.‬

بعصبية‭ ‬واضحة،‭ ‬سحب‭ ‬بائع‭ ‬الحكمة‭ ‬الكتب‭ ‬من‭ ‬يد‭ ‬الغبي‭ ‬وسأله‭:‬

‭ ‬بالله‭ ‬عليك‭ ‬ماذا‭ ‬تعمل‭ ‬انت؟‭ ‬أجاب‭ ‬الغبي‭:‬

‭ ‬والله‭ ‬انا‭ ‬اشتغل‭ ‬عدة‭ ‬شغلات‭ ‬آخرها‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬الليل‭ ‬ابيع‭ ‬الفول‭ ‬السوداني‭ ‬والسسّي‭ ‬أمام‭ ‬دور‭ ‬السينما‭ ‬على‭ ‬منضدة‭ ‬خشبية‭ ‬صنعتها‭ ‬بنفسي‭ ‬خفيفة‭ ‬وسهلة‭ ‬الحمل‭ ‬لأني‭ ‬بعد‭ ‬انتهاء‭ ‬عملي‭ ‬احملها‭ ‬عائدا‭ ‬لبيتي‭ ‬القريب‭ ‬من‭ ‬دور‭ ‬السينما‭.‬

عندها‭ ‬فقط،‭ ‬شبك‭ ‬بائع‭ ‬الحكمة‭ ‬يديه‭ ‬على‭ ‬رأسه،‭ ‬وصاح‭ ‬بأعلى‭ ‬صوته‭ ‬باكيا‭ ‬واويلاه‭ ‬ياويلتي‭ ‬وياويلي‭ ‬أوراق‭ ‬الفلسفة‭ ‬والحكمة‭ ‬تباع‭ ‬لغرض‭ ‬عمل‭ ‬اكياس‭ ‬ورقيه‭ ‬يعبأ‭ ‬بها‭ ‬الفول‭ ‬السوداني‭ ‬والسسّي‭ ‬وحب‭ ‬القرع‭ ‬الاحمر‭ ‬وحب‭ ‬البطيخ‭.‬

‭ ‬حمل‭ ‬بائع‭ ‬الحكمة‭ ‬كتبه‭ ‬وذهب‭ ‬لبيته،‭ ‬ولم‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬الدار‭ ‬لعدة‭ ‬أيام‭ ‬حتى‭ ‬نفد‭ ‬الخبز‭ ‬والطعام‭ ‬من‭ ‬داره،‭ ‬فذهب‭ ‬الرجل‭ ‬الى‭ ‬سوق‭ ‬المكتبات‭ ‬واشترى‭ ‬مجموعة‭ ‬هائلة‭ ‬من‭ ‬كراسات‭ “‬جلب‭ ‬الحبيب‭” ‬و‭”‬ألف‭ ‬رسالة‭ ‬غرامية‭” ‬و‭”‬مليون‭ ‬نكتة‭ ‬أجنبية‭” ‬و‭”‬كيف‭ ‬تصبح‭ ‬مليونيرا‭ ‬في‭ ‬7أيام‭”.‬

‭ ‬ولم‭ ‬يصل‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬سوق‭ ‬الهرج‭ ‬حتى‭ ‬نفدت‭ ‬نسخها‭ ‬جميعها،‭ ‬وبسرعة‭ ‬هائلة‭ ‬وبالسعر‭ ‬الذي‭ ‬طلبه‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬مساومة‭.‬

‭ ‬ذهب‭ ‬بائع‭ ‬الحكمة‭ ‬واشترى‭ ‬لحما‭ ‬وخضرة‭ ‬وفاكهة،‭ ‬ولسان‭ ‬حاله‭ ‬يلعن‭ ‬الحكمة‭ ‬والفلسفة‭.‬

‭ ‬وعند‭ ‬حلول‭ ‬المساء‭ ‬رأى‭ ‬الجميع‭ ‬بائع‭ ‬الحكمة‭ ‬يحمل‭ ‬الجنبر‭(‬المنضدة‭ ) ‬على‭ ‬متنه‭ ‬واقفا‭ ‬أمام‭ ‬دور‭ ‬السينما‭ ‬يصيح‭ ‬بصوت‭ ‬جهوري‭ ( ‬حب،‭ ‬علج،‭ ‬سكائر‭ ‬،‭ ‬كرزات‭ ‬معبأة‭ ‬بأكياس‭ ‬الحكمة‭ ‬لأعظم‭ ‬الفلاسفة‭ ‬نيتشه‭ ‬تولستوي‭ ‬دستوفسكي‭ ‬تشارلز‭ ‬ديكنز‭ ‬علي‭ ‬الوردي‭ ‬برنارد‭ ‬شو‭ ‬كافكا‭ ‬واللي‭ ‬يعجبكم‭ ‬كلها‭ ‬عالملح‭ ‬كلها‭ ‬عالملح‭ ‬ومعاهم‭ ‬هدية‭ ‬كيس‭ ‬سسي‭ ‬صغير‭ )‬

ملاحظة‭: ‬السسّي‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬الكرزات‭ ‬وهي‭ ‬ثمار‭ ‬لنبات‭ ‬شوكي‭ ‬بري‭ ‬يكثر‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬وشمال‭ ‬غرب‭ ‬العراق‭.‬

‭ ‬الآن‭ ‬بائع‭ ‬الحكمة‭ ‬صاحب‭ ‬أكبر‭ ‬معمل‭ ‬لتوريد‭ ‬الكرزات،‭ ‬ورحم‭ ‬الله‭ ‬الحكمة‭ ‬التي‭ ‬ماتت‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬مع‭ ‬الوطنية‭ ‬والأمل‭ ‬في‭ ‬سماحة‭ ‬أهلنا‭.

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *