“عندما كنتُ صغيرة، لم تخبرْني جدتي بأن الإنسانَ يصنعُ الشرّ بهذا الإتقان، لم تقل لي : إن الموتَ قرارٌ مسبَق يتخذه الآخرون عنا، حذّرتني من الأسد، من السعلوّة التي تأكل الأطفال، من الغول الذي يفترسُ المشاغبين، من الذئب الذي تربّص بليلى ونام في سرير جدتها. نسيتْ جدتي أن تحذّرني أولاً، من الإنسان، الذي يهابُه الغول والسعلوّة وقطعان الذئاب”ص 137 .
مجانباً الصواب القول ان هذه العبارة التي حملتها رواية سمعت كل شيء للكاتبة والاعلامية العراقية سارة الصراف تختصر كل شيء ورد فيها ، فالحقيقية انها تختصر ازمة الماساة الانسانية برمتها ، فالرواية المكتوبة بصيغة (سيرة روح) تغطي مرحلة مهمة مما يمكن تسميته الخط الخلفي للتاريخ ، تاريخ الناس ويومياتهم ، ظلال احداث عاصفة مليئة بالموت والشعور بلاجدوى حرب انفعالية حمقاء لم تدع انسانا آمنا ، هددت والى اليوم مستقبل شعبين متجاورين هي حرب الثمان سنوات بين العراق وايران، لاسيما وان تاريخ الأسى اليومي هذا ترصده طفلة تنمو مع الاحداث وتتفحص وجوه الامهات والنساء، تتفحص الموتى في مجاهيلهم الغامضة والأحياء في علاقاتهم وتحولات حياتهم لتذكّرنا نحن الذين نسينا كيف عاش الناس ، ياكلون ويحبّون ويتزوجون ويسافرون ويدرسون ويحلمون في ظل تلك الكوارث التي تشيّع أيّامنا ساعة َساعةَ الى مثوى اليأس و الجنون .
تقسم سارة روايتها – سيرتها بصيغة لقطات أو فصول تشبه بطاقات الايام ومذكراتها، لكنها مذكرات مكتوبة بلغة مجازية مرّة حيث لايمكن استيعاب مخزون المواقف واليوميات في تلك الظروف وحمولاتها الا لغة الشعر الممزوجة بألم مبكر يتصاعد مع كل يوم ، ” وانا بين جيلين أبدو هادئة مشغولة بواجباتي، لكن قلبي صاخب اكثر من قدرتي على اسكاته ” ص 374 مما يجعلها نصاً نادرا فعلا في تدوين يوميات الحرب داخل جمجمة طفلة تراقب وتحلل وتتحمل بقلبها اليقظ الغض تبعات ما يجري . مذكرات تبدأ من السابع من اب عام 1982 يوم فتحت عشتار الصبية عينيها على الحياة وهي تعوم في ظل انهيار نفسي طغى على أهلها وعائلتها وجيرانهم وتحديدا جدتها “فطوم” التي كانت الرابط بينها وبين العالم ، العالم الذي جاءها جاهزا بين سنتين طاحنتين من الحرب بعيدا عن وعيها فوقع بثقله مرة واحدة على ماترى . لتبدأ شهادتها ايام الثمانيات وسنواتها ، لن تجد اشارة للحرب او السياسة رغم ان كل الحياة اليومية تشير لها ولاسقاطاتها على مايجري . مواسم تمر وعلاقات حب وقلق بنات ورغبات دفينة واخطاء ومحاولات يومية للامساك بالحياة التي تجرفها الحرب وتسحبها صورة الوالدين الذين رحلا وظلّا يقودان قلب الصغيرة من عالمهما الآخر وهو يحوّل الحاضر الى عالم غيب ، العيش بشكل طبيعي وسط الفزع ، والحفاظ على بقايا ارث الناس وأحاديثهم وطعم جلساتهم ، باسلوب تبادلي بين الواقعةِ والافتراض ، حيث تبدو الشخصيات المباشرة القريبة الى عشتار الجدة فطوم والصديقة رغد وعايدة وعباس كائنات مصنوعة فيما تبدو احداث مفترضة كانها حياة يومية واقعية ، وهو السر الذي يحول هذا الكتاب من مجرد استعراض حكايات وانطباعات ومذكرات الى نص بدلالات متحركة ، وعمل ابداعي كتب بالألم كما يرد في فصل ( نصيف صديق خالي تموز 1968) والحوار الثري بينه وبين الكاتبة الواعدة حيث تقول ( الالم هو الالة التي تنتج الابداع).
سمعت كل شيء ، كتاب مهم وجميل ، جميل في انه يدون الهامشي بمجاز وعمق ودلالة ، ويتحدث عن الاساسيات بنعومة ولغة وَخْز تتضح في ادارة الموضوعات التي تناولتها ، فقد قرانا عن الحرب كثيراً وعن مآسيها الانسانية ومازال السبيل طويلا ومتاحا للكثير مما تفترضه المخيلة او تمليه الوقائع ، لكن سيرة بهذا النمط ، سيرة ظلال التاريخ او تاريخ الظلال الذي تنتجه الحرب ما جاءت عليه رواية – سيرة ( سمعت كل شيء) التي كتبتها سارة الصرّاف وهي تتقافز بين سنوات الطفولة والصبا، في ميدان اخر يقابل ميدان حرب الثمانينات، هو ميدان الناس التي عاشت مساويء السياسة ولم تكن طرفاَ فيها . أمر مختلف يجعل انجازها مختلفا بالضرورة .