ما زلتُ اتذكّر مواقف المعترضين عليّ يوم أن كنت أدرس الدكتوراه أيام الحصار الاقتصادي في تسعينيات القرن المنصرم، وكان الموقف يتضمّن سؤالاً منطقياً في مثل تلك الظروف وهو: لماذا تدرس وتتعب نفسك؟ والحقيقة أني ما كنت أتخلّص من مأزق هذا السؤال إلا بالإجابة بقولي: ( في دولة كذا يعطون مبلغاً كبيراً بالدولار لحامل شهادة الدكتوراه) وكانت هذه الحجة كافية إلى أن يقتنع المعترض أو الفضولي ويتركني وشأني.
وبقدر ما كنت حريصاً على الوظيفة في الجامعة وما يحمله هذا المسمّى من قيمة اعتبارية ومعنوية ومادية أيضاً، كانت الأيام تمرّ

بانسيابية لوجود قيم ومسلمات تُبقي هذه الوظيفة محط اعتبار وأهمية لما لها من تأثير معرفي وتربوي على جيل يتجدد مع كل عام، ولم تكن السنوات المنسابة تلك تستمر لفترة طويلة، إذ سرعان ما دخلت الجامعة في معادلات تشتمل على كلّ شيء إلا المهمة الأساسية والأصيلة وهي البناء الفكري والمعرفي والتربوي، فمنذ ٢٠٠٣ بدأت تدخل الجامعات في نفق لا آخر لنهايته ونحن مع العقدين نرى ونشهد.

كان انفراط عقد الدولة -حتى لو كنت تختلف مع سياستها – أصعب ما حدث في كثيرٍ من المؤسسات التي كانت مستقرّة وتقف على أرضية ثابتة، وصحيح أيضاً أن المراكز الإدارية كانت تخضع لاعتبارات أيديولوجية أحياناً، إلا أنها مع ذلك كانت هذه المراكز تُراعى فيها الكفاءة والخبرة مع الولاء الفكري، ولهذا فإن معظم القيادات الجامعية لا يستطيع أحدٌ أن يطعن بقدرتها وكارزميتها وكفاءتها في إدارة المؤسسة التي يديرونها.

اليوم ما إن أتممت عشرين عاماً حتى سارعتُ إلى طلب التقاعد باختياري الكامل وقناعتي بأن مساحة العطاء ليست متوقفة في حدود الجامعة التي يتبارى البعض برفع أسوارها لتكريس الطبقية والانفصام عن الواقع والحياة، وربما لأسباب أخرى، كان مما خرجت به أن الأستاذ الجامعي يعيش حالة من الازدواجية بين التطور الذي يتماهى معه كلّ يوم، وبين أجيال الطلبة الذي يقدمون إلى الدراسة الجامعية، وهم مع كل سنة يتراجعون معرفة وخبرة، فتزداد الهوّة وتتسع الفجوة بين الطرفين، ولن تكون هذه الإشكالية هي الأولى والأخيرة في رحلة الأستاذ الجامعي الذي فهم من هذه الوظيفة أسمى قيمِها وأعلى منازلها،
تقاعدتُ واقفاً لقناعتي أن التحرر من واقع يزداد تدهوراً مع كل يوم، واقع تغيب عنه القيم الأصيلة، هو أولى ما يجب أن يفكّر به صاحب الرسالة، تقاعدتُ واقفاً وليس محمولاً أو متكئاً على عكّاز، تقاعدتُ موقناً أن ثمة ما يمكن أن نقوم به بحرية تامة واختيار خالص محض خارج المؤسسة التي تغيّرت وتشوّهت معالمها، تقاعدتُ بقناعة أن العمل الوظيفي في ظروف مثل جامعاتنا هو أخطر فخٍ يقع فيه أحدنا، حيث تمرّ السنون وقد اعتاد الفخ وتعايش معه، ولا أدري كم من الوقت سيحتاج كي يصحو ليجد بعضاً منه قد تآكل فيبدأ رحلة التبرير مقنعاً نفسه بعذر الصبر على الرزق، متناسياً أنه قد تحوّل إلى كتلةِ مبرمجة مروّضة لا يقوى على شيء إلا على الحضور والانصراف اليومي، وبقية من الأوفياء ينادونه بــــ (أستاذنا) تقاعدتُ رغم السنوات السبع الباقية والمتاحة لي، لأنني ببساطة لا أريد أن أتحوّل إلى رقم في بودرة الرواتب يعدّ الأيام أو كفلاح دون منجل، وإن كان بمنجل فهو مكسور.

استاذ جامعي متقاعد

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *