كان العرب قبل الإسلام يبحثون عن مرضعات بدويات او قرويات لأبنائهم حديثي الولادة فيسلمونهن إياهم تاركين لهن مهمة إرضاعه ليس الحليب فقط وإنما لإرضاعه قيم وأخلاق ومبادئ وشجاعة وفروسية البداوة والارياف التي كانت ومازالت تمثل قمة الخلق والالتزام والمبدئية وخير دليل على ذلك هو إرسال أشرف خلق محمد صلى الله عليه وسلم إلى مرضعته حليمة السعدية .إذاً فإن المجتمع القروي بكل أشكاله البدوية والريفية كان ولايزال يمثل منبع الشجاعة والخلق والالتزام والجرأة والمبدئية والفروسية والتي تصقلها المجالس والتجارب والأجواء القروية النقية وهي من أهم أسس القيادة القديمة والحديثة التي قد لا تتواجد كثيرا في المجتمعات الحضرية بسبب عدم وجود المساحة الكافية زمنيا ومكانيا في تلك المناطق المدنية وانشغال سكانها بالأعمال التي غالبا ما تكون نظرية او مكتبية لا تساعد صاحبها على بناء الشخصية المتكاملة كما في المناطق الريفية حيث الجهد العضلي من خلال العمل في المزارع والحقول والبساتين والفكري من خلال الدراسة والمتابعة لكل شؤون الحياة ومجالاتها السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والدينية خصوصا وان في عصرنا هذا لم تعد هناك فوارق كبيرة من ناحية التطور العلمي والتكنولوجي والعمراني بين القرية والمدينة فصارت البيوت القروية مبنية بأحدث الطرق والمواد واغلب الشوارع معبدة بل هناك مدن كبيرة تفتقر الى شوارع وخدمات كما في بعض القرى اضافة الى وجود المدارس بكافة مراحلها والمراكز الصحية وحتى مراكز الشرطة هذا عدا خدمات الكهرباء والماء وغيرها وتوفر كافة أنواع الاتصال الإعلامية والإلكترونية التي انتشرت في كل بيت قروي و حضري .
ومما يساعد شباب القرى على تطوير أنفسهم وبلوغهم مستويات عالية من العلم والثقافة في مختلف المجالات هو وجود مصادر تمويل اكثر مما موجود في المدن من خلال ما يمتلكون من مزارع وحقول تدر عليهم من الأرباح ما يساعدهم على الوصول إلى أعلى المستويات العلمية والثقافية التي تؤهلهم لقيادة دول وليس دوائر ومدن لهذا نجد اغلب العلماء والمثقفين والأدباء والقياديين المدنيين والعسكريين والسياسيين ومختلف التخصصات يخرجون من صلب المناطق الريفية بينما يندر وجود قياديين من المدن مقارنة بأولئك الذين تُخرِجَهم الأرياف.
ان ما دفعني للخوض في هذا المجال هو سماعي لحديث غير مبرر في مكان ومناسبة لا تحتاج لمثله حيث كنا في لقاء في إحدى الدوائر لتهنئة مديرها الجديد بمناسبة تسنمه منصبه الجديد واذا بأحد الحاضرين ينبري للمدير الجديد بالقول فرحنا كثيرا بأن يكون المسؤول هذه المرة من المدينة فقد مللنا و تعبنا من قيادة أبناء القرى وإداراتهم للدوائر والمؤسسات ، علما ان مسؤولي هذه الدائرة بالذات ولفترات طويلة هم من ابناء المدن وان المتحدث ينحدر من أصول عشائرية ريفية .
وهنا لابد من القول ان البيئة رغم كل ما تقدم من مميزات البيئة الريفية ليست هي المقياس الحقيقي لنجاح المسؤول او القائد أيا كانت مهمته القيادية انما هي تربية ونشأة هذا المسؤول في عائلته اولا ثم خوضه غمار مخابر العلم والحياة ومستوى التزامه الخلقي والديني بغض النظر عن بيئته الجغرافية والاجتماعية إضافة إلى مدى استفادته من دروس وتجارب الاخرين في منطقته وبلده وربما حتى من التجارب العالمية والتاريخية الاخرى فكل هذا يؤدي الى صقل شخصيته القيادية الناجحة سواء جاء من أبعد القرى النائية او من قلب العاصمة ومن اقدم احيائها.