الدعوة الى إصلاح الحوزة العلمية في النجف الأشرف ليست وليدة اليوم؛ إنما نشأت وترعرعت كحراك مستمر منذ الربع الأول من القرن الماضي، وتحديداً في 1343هـ (1925م) حسب ما جاء في مذكرات الشيخ محمد رضا المظفر، واستمرت الى يومنا هذا، ومما لاشك فيه أنها ستستمر الى ماشاء الله (تعالى)، إنّما المتغير في هذه المحاولات هو الأسباب والدواعي التي تتطور مع الزمن؛ ففي الوقت الذي كانت الأسباب موضوعية ناجمة عن الحاجة الملحة على سبيل المثال، نتيجة انتشار قاعدة المقلدين على مساحة واسعة، امتدت من العراق الى البلدان الأخرى، ولهذا أصبح لزاماً مراعاة العلاقة مع المقلد، والانفتاح على القواعد الشعبية، وتطوير برنامج لإعداد الوكلاء وحسن أدائهم، وتوفير العدد الكافي منهم لتغطية الرقعة الجغرافية في النجف والمحافظات الأخرى، فضلاً عن الحاجة الى تطوير ملكات وقدرات المنتمين الى الحوزة العلمية، مما يتطلب وضع ضوابط دقيقة لقبول الأنتماء للحوزة العلمية، وذلك لضمان امتلاكهم الحد الأدنى من القدرات والكفاءة.
ونجد أن تحديات واقعية برزت في الوقت الحاضر، لابد من مراعاتها، كالانفتاح الأعلامي واسع النطاق ومتعدد الوسائل، الذي أخرج العراق من القمقم الذي حبسه به النظام السابق بكل ممارساته الطائفية، الى أن يكون تحت مجهر الإعلام بكل تفاصيله، بالعرض والتحليل، لاسيما المسلّط على الشيعة في العراق، ولاسيما النجف مركز التشيع وحوزة النجف العلمية، وقد اعتبر العديد من الباحثين المهمين، أن الشيعة والتشيع موضوع بكر لم يكتب عنه ما يكفي، مما جعل كل الأنظار تتوجه الى المصدر والمركز، لتكتب وتحلل وتبحث بنوايا طيبة أو سيئة، فضلاً عما كشفته أحداث جسام مرت على العراق بعد 2003، من انفتاح الفكر الشيعي؛ فعكفت أنظار كبار المعنيين بالدراسات الإسلامية، والمخططين الاستراتيجيين، والسياسيين وغيرهم في أرجاء العالم، وبخاصة في المعاهد والجامعات ومراكز الأبحاث المتخصصة على ذلك الفكر الحر النيّر؛ فانعطفوا نحوه محاولين معرفة حقيقة مذهب شيعة أهل البيت (عليهم السلام) من خلال حوزة النجف الأشرف العريقة.
كما أن هناك ضرورة لاستثمار الفرصة السانحة بوجود المرجعية الدينية الحالية التي نهضت بمسؤولية استثنائية وفي زمن استثنائي، يوم دعت لدستور يكتبه العراقيون بأيديهم، ويوم أصدرت فتوى الجهاد الكفائي؛ فقد آن لها أن تتبع نهضتها السياسية والأجتماعية بنهضة إدارية وفنية تعيد فيها ترتيب بيتها الداخلي، بعد أن أعادت ترتيب بيت العراق الداخلي بنجاح . كما أنّ الحرص الشديد للمرجع الأعلى الحالي والمراجع الحاليين في حوزة النجف الأشرف العلمية، على التشاور والتواصل والتعاضد، قد ضربوا لنا مثلاً قلّ نظيره سابقاً في التشاور، ونموذجاً عزّ مثيله قبلهم في التواصل. وقد أكد الدكتور علي المؤمن على أن الدعوة للاصلاح والتجديد ما هي إلّا استجابة لمتطلبات الواقع وضغوطاته، وأنها لاتمس الثوابت، بل تستهدف المتغيرات التي تبقى بحاجة للتعديل والتطوير مع الزمن.
إن المهمة والدور المأمول لحوزة النجف الأشرف العريقة في إعداد جيل من رجالات الحوزة العلمية، ملمّ بما ينبغي الإلمام به من مناهج ولغات، ومعارف وطروحات، مؤهّل أكفأ تأهيل، معدّ للتباحث كأفضل ما يكون عليه الإعداد والتدريب، لينهض المتخرج من حوزة النجف الأشرف بالدور الريادي في حواضر العالم ومراكز بحوثه وجامعاته الكبرى؛ تستدعي الاستجابة الى الدعوات التي تصدر من الحريصين والمحبين الذين، مهما تباينت وتوسعت رؤيتهم الإصلاحية؛ فأنها في آخر المطاف تلتقي عند الآليات التنظيمية والإجرائية في هيكلية الحوزة العلمية، المناهج الدراسية، معايير أختيار طلبة الحوزة والنظام المالي.
مصطلحات الإصلاح وتناسب تطبيقاتها على الحوزة النجفية:
لقد وردت بشكل بارز ثلاثة مصطلحات في كتاب «الاجتماع الديني الشيعي» للدكتور علي المؤمن، وهي (الإصلاح والمأسسة والترشيد)، وقد تكرر مصطلحي (الإصلاح والمأسسة) في مصادر أخرى، حتى باتت شائعة خاصة في الكتب التي تبحث في شؤون المؤسسة الدينية الشيعية، وأقصد بالضبط الحوزة العلمية في النجف الأشرف. وسأجري حواراً حول هذه المصطلحات وتطبيقها على المقترحات الإصلاحية (كما يشار اليها) في نظام حوزة النجف الأشرف، مراعية خصوصيتها وتفرد نظامها مستعينة بشواهد من كتاب «الاجتماع الديني الشيعي» ومصادر أخرى.
1- الإصلاح:
قال الإمام الحسين (عليه السلام) في وصيةٍ لأخيه محمد بن الحنفية ((إني لم أخرج أشراً، ولا بطراً ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين))؛ فخرج ثائراً وقادها ثورة قلبت موازين الأمور، ومازالت نبراساً لكل
الثائرين والمصلحين. ليس الإصلاح عملية ترقيعية أو هامشية أو شكلية تمس المظهر والشكل، وتدخل في جانب وتترك جوانب أخرى؛ إنّما الإصلاح هي عملية التأثير الجذري الذي لايعود الوضع فيه على ما كان عليه، بل يتغير كلياً الى الأكمل والأحسن والأفضل، لكن البهادلي له رأي آخر؛ فقد ساق الشواهد والأدلة التي لايتسع المقام لسردها، وخلص الى أن الاصلاح يعني النظام والترتيب، فما المقصود من إصلاح الحوزة الدينية؟
2- المأسسة:
عندما نقول (لابد من مأسسة هذا العمل) يعني تأسيسه، وجعله ذا أصول وحدود معلومة، لذا فإنّ البديل الصحيح لكلمة (المأسسة) هو كلمة (تأسيس): أَسَّ البناءَ يَؤُسُّه أَسّاً وأَسَّسَه تَأْسِيساً، (أَسَّسْت داراً ) إِذا بنيت حدودها ورفعت من قواعدها. وعندما يكون المقصود أن يصبح العمل مؤسسياً نسبة الى المؤسسة؛ فالمصطلح الصحيح هو (مؤسسية العمل ) وليس المأسسة، وعلى هذا الأساس، وبعد أن تبيّن أن مصطلح (المأسسة) لايعبر عن المقصود، وأن العمل المؤسسي هو المصطلح الصحيح؛ فما المقصود من العمل المؤسسي؟. ببساطة يقصد به (العمل الجماعي) الذي يعتمد حشد الجهود والطاقات والخبرات لإنجاز العمل على أكمل وجه، حيث لايمكن لأي شخص بمفرده لأنجازه بنفس المستوى.
وتعرِّف الموسوعة الحرة (ويكيبيديا) المأسسة (في تعريف طويل تم تلخيصه) بأنها إضفاء الطابع المؤسسي داخل منظمة أو نظام اجتماعي أو المجتمع ككل، ويُنظر إلى إضفاء الطابع المؤسسي على أنه جزء مهم من عملية التحديث في البلدان النامية، بما في ذلك توسيع وتحسين تنظيم الهياكل الحكومية.
ومن خصائص العمل المؤسسي أنه يعتمد سياسات ولوائح ونظم مكتوبة تنص على توزيع المهمات على الإدارات والأقسام التي تتشكل من لجان وفرق عمل ضمن هيكلية الأدارات في داخل المؤسسة، بحيث تكون مرجعية القرارات في العمل المؤسسي الى مجلس الإدارة، الذي يتشكل من مدراء الإدارات المتخصصة، ويحدد النظام الداخلي أو قانون تلك الإدارات آلية التصويت على القرارات وحدود نسبة التأثير لرئيس مجلس الأدارة أو رئيس المؤسسة.
وبما أن العمل المؤسسي يعتمد العمل الجماعي؛ فهو بلا شك ضد العمل الفردي أو القرار الفردي، معتبراً أنه يعكس السمات البشرية لصاحبه من الضعف والإهمال، فضلاً عن التسلط ومصادرة الرأي الآخر، ويعتقد أصحاب هذا الرأي بأن العمل الجماعي من جانب آخر يجمع مصادر القوة؛ مما يعد الضامن لمستوى إنجاز مرتفع وبجودة مقبولة، إن لم تكن مرتفعة .
ومن ميزات العمل المؤسسي أنه يكرس الشفافية، ويسهل المحاسبة والمساءلة، ويؤدي الى كشف الأخطاء والمقصرين، ومن ميزاته الأخرى وجود هيكلية تنظيمية للمؤسسة أو الكيان، تحدد فيها الوحدات المكونة لها، والعلاقة بين هذه الوحدات، وخطوط التواصل بينها، وآليات صنع القرار، وتمتاز بإشاعة روح الفريق، وإدارة الأمور بمقاييس تقوم على تحقيق أفضل النتائج والإنجازات، وغيرها كثير من الأمور التي لايمكن حصرها، مما تفيض بها مواقع البحث الإلكتروني، وقد كان الغرض من كل هذه المقدمة التعريفية لمصطلح المأسسة هو الأجابة على سؤالين:
الأول: هل هذا المصطلح مناسب أو ينطبق أو يتلائم مع سياقات عمل الحوزات العلمية؟، مع الأخذ بعين الأعتبار تجارب العلماء، الإصلاحيين منهم والذين نقلوا خلاصة خبرتهم وتجربتهم، ((وقد أعطتنا التجارب ان الأعمال الكبيرة، يجب من أجل نجاحها أن تقوم بها مجموعة محدودة، تدير دفة العمل بتعاضد وتكاتف وتضحية، عكس ماهو مشهور، لأن الشعور بالمسؤولية يقوى في الفرد إذا قلّت الجماعة، وهكذا كلما كثرت الجماعة ضعف الشعور بالمسؤولية في الفرد))، أي أنّ المسؤولية الفردية تضعف في الجماعة، لأن كلّ فرد يتكأ على الآخر، وينتظر الدور المخول به، أي تخبو روح المبادرة والتطوع، بينما لدى الأفراد محدودي العدد، تكون حالة الشعور بالمسؤولية قوية. وهذا الحديث من تجربة الشيخ المظفر.
أما السؤال الثاني: هل المطالبة بتطبيق العمل المؤسسي في الحوزة العلمية يشمل المحاور الأربعة، أم أنها ممكنة ومقبولة حصراً في النظام المالي ؟. وهذا السؤال يتبع بتساؤلات أُخرى بأن المنهج الدراسي الحوزوي وطبيعة المواد والكتب الدراسية والنتائج المرجوة من كل منهج، والتي هي تحت إشراف المرجع الأعلى مباشرة، هل الأصلح أن نبعدها عن الإشراف المرجعي لتستبدل بلجان أو مجالس قد يكون المرجع من ضمنها؟ وما ذكر من تطبيقات تعد هامشية، فضلاً عن أن سلبياتها أكثر من إيجابياتها، كالامتحانات وشهادة التخرج أو الشهادة العلمية، مع الإشارة بأنّ تطور التعليم غير الديني تلمس سلبيات هاتين الوسيلتين لتقييم الطالب، وبات اعتماد أساليب أخرى للتقييم، يجدونها أكثر أهمية، مثل بحث ما قبل التخرج أو مشروع التخرج، حسب نوع التخصص؛ فهي آلية مهمة لاكتشاف الملكات الإبداعية لدى الطالب وقدرته على صناعة حلول جديدة لمشكلة علمية.
كما أن اتخاذ القرارات بالاجماع، ربما للمراتب دون المرجع الأعلى، من أجل إنضاج القرار وعرضه على المرجعية العليا، مع أن مسؤولية المرجع الأعلى وامتداد مقام المرجعية التاريخي؛ تخوِّلها بالتفرد في القرار، وتحمل مسؤوليته كاملاً، كما حصل في مواقف عدة. من هنا أقول أن بعض المصطلحات لاتتناسب مع الموضوع قيد البحث.
3- إعادة الهيكلة:
قد يكون استخدام مصطلح (إعادة الهيكلة) الذي ذكره الدكتور علي المؤمن في بعض فصول الكتاب، والذي غالباً ما يستخدم للشركات أو المؤسسات الإقتصادية؛ هو الأكثر واقعية، حيث عرفت لجنة الأُمم المتحدة الإقتصادية والأجتماعية لغربي آسيا (الأسكوا) إعادة هيكلة المؤسسة بأنها لا تؤثر على استمرارية المؤسسة، وإنما تغير هيكلية المعالجة. ومن أهم مزايا أعادة الهيكلة بأنها قد تكون فرصة لخلق هيكل إدراي وتنظيمي لأي مؤسسة يتلائم مع حاجة التطوير، ومن أجل أداء أفضل.