الكاتب مزهر جبر الساعدي
أن الولايات المتحدة، خططت لإضعاف الاتحاد الروسي، بأساليب ووسائل متنوعة ومختلفة، ان من اهمها؛ هو محاصرتها، ولف حبال الناتو حول رقبتها، وتجريدها من قوة الردع المقابل. واعني هنا؛ التأثير المدمر للضربة الاستباقية، على قوة الردع المقابل، او الضربة الجوابية. وهذا هو ما تخشاه روسيا، كما كان يخشاه الاتحاد السوفيتي، ابان الحرب الباردة. جميع عوامل هذا الصراع بين القوى العظمى في العالم، هي، في الاول والاخير؛ للسيطرة على مقدرات العالم، والتحكم فيها. هذا لم يكن وليد اليوم او انه وليد الامس، او انه، سوف ينتهي في الاجل المنظور، او الاجل المتوسط، او البعيد، بل هو سوف يظل ويبقى ما دام هناك في العالم مصالح مشروعة او غير مشروعة، وهي في الاعم الاغلب، غير مشروعة، والذي اقصده هنا؛ مصالح القوى العظمى، التي في الكثير منها، تفتقر الى المشروعية والعدل والانصاف. نعود الى الصراع الامريكي الروسي؛ بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة، وانتهاء حلف وارسو، مع بقاء حلف شمال الاطلسي، بل على العكس من هذا اي من بقاءه؛ تم زيادة عدد اعضاءه، وتمدد بالقرب من حدود الاتحاد الروسي. ان هذا التمدد والتوسع جرى في فترة كانت فيها روسيا؛ راقدة في العناية المركزة، والتي استمرت فيها لفترة طويلة. فلم يكن في قدرتها ايقاف هذا التمدد والتوسع الذي يقوم به الناتو. خلال هذه الفترة او هذه السنوات؛ قامت روسيا او انها طلبت من امريكا، ضمها الى حلف الناتو، هذا الطلب جوبه اما بالصمت وعدم الرد، أو بان وضع روسيا، او انها غير مؤهلة للانضمام الى الناتو، كما كان يقول اقطاب الناتو، أو كما كان يقول، ولو بصوت غير مسموع؛ القطب الامريكي القائد الواحد والوحيد في هذا الحلف، الذي فقد مبرر وجوده، قبل ثلاثة عقود من الآن. في نفس الوقت واصل الناتو التوسع والتمدد على مقربة من حدود روسيا، حتى لم تبق سوى جورجيا واوكرانيا، ليتم شد العقدة الاخيرة من حبل مشنقة الناتو، اي امريكا حول رقبة الدب الروسي. هنا رأت روسيا بانها ان سكتت سوف يتم تجريدها من جميع عناصر الردع التي هي في حوزتها، اي تقليل الى حد كبير من فاعليتها وقوتها الردعية؛ لذا، وكي توقف هذا الزحف قامت ما قامت به في عام 2008في جورجيا حتى تحَول من دون انضمام جورجيا الى الناتو وقد تمكنت فعليا من هذا، وهذا هو على وجه التحديد ما تقوم به في اوكرانيا في هذه الايام. السؤال المهم هنا؛ لماذا، لم يتم قبول روسيا في الناتو( امريكا)؟. قبل الاجابة على هذا السؤال؛ اعتقد من الاهمية بمكان؛ تسليط الضوء على السياسة الامريكية في العالم، بقدر وبحدود، ما اعلم واعرف، وعلى الاستراتيجية الامريكية في العالم. امريكا لا تريد لأي دولة عظمى او كبرى؛ ان تنافسها على الريادة في كوكب الارض، او على قيادتها للعالم، والحقيقة هي بالتالي، على منافستها او مزاحمتها على المغانم والمصالح غير المشروعة لها في العالم، تحت مختلف الاكاذيب والمخادعة؛ كي تستمر في استغلال الدول والشعوب، وتحول انظمتها السياسية والاقتصادية بصورة مباشرة او بصورة غير مباشرة؛ الى انظمة مستنسخة لنظامها الرأسمالي،( استهلاكي وليس انتاجي) وبالتالي او بالنتيجة انتهاك سيادتها ومصادرة قرارها المستقل، سواء السياسي او الاقتصادي. عليه، وعلى هذا الطريق؛ تريد محاصرة روسيا والصين معا، لكن بطريقين مختلفين، او غير متزامنين، وفي نفس الوقت؛ بطريق واحد، وفي زمن واحد، من حيث البداية والمسار والنهاية. اعني تحديدا؛ اختيار امريكا لزمن الصدام وطريقته ومكانه، بما يناسبها ظرفيا، بالاشتباك مع احد الدولتين، لناحية شدة المواجهة وارتفاع حرارة الصدام، مع تبريد الاشتباك وقتيا مع الاخرى، انما يستمر اللهيب مشتعلا تحت الرماد. وهذا هو ما جعل كلا الدولتين روسيا والصين؛ يشتركان في شراكة استراتيجية في مواجهة امريكا وخططها؛ لأضعاف الدولتين العظميين. في العودة الى الرفض الامريكي، او رفض الناتو، والذي هو اصلا، رفضا امريكا لانضمام روسيا الى الناتو. الولايات المتحدة من خلال او عبر منصة الناتو؛ تسيطر على دول الاتحاد الاوربي، اي مصادرة قرار الاتحاد الاوربي، ولو جزئيا، ولكنه، مع انه جزئيا، ولكنه، مؤثرا؛ في الدعم الاوروبي للسيادة الامريكية على العالم، من غير ان يكون هناك منافس لها، في الفضاءات الاطلسية. تحاول دول الاتحاد الاوربي في السنوات الاخيرة، التخلص من هيمنة الولايات المتحدة عليها، والتخلص من مهمة امريكا في تولي حمايتها من الدب الروسي، أو في وجه مشاريع الدب الروسي في دول الاتحاد الاوروبي. فقد ارتفعت الاصوات الاوروبية في تكوين جيش اوربي لحمايتها من جميع الاخطار، من غير الاعتماد على الحماية الامريكية لها، لكن هذا التوجه الذي تبنته فرنسا والمانيا، لكنه لم ير النور، ولم تتحول هذه الفكرة الى الواقع على الارض، بسبب ما لأمريكا من اعوان من دول الاتحاد الاوربي يدينون بالولاء لأمريكا وسياستها في اوروبا. من هذا الباب رفضت امريكا ادخال الاتحاد الروسي في حلف الناتو. ان هذا الرفض له، ما يبرره من الجانب الامريكي، وهو مبرر استراتيجي؛ فهو وببساطة سوف يقود، أو ينتهي، ان انضمت روسيا الى حلف الناتو؛ الى ان تحد روسيا، من هيمنة امريكا على الحلف، وتزاحمها على قيادة هذا الحلف. وبالتالي وبالنتيجة؛ سوف يتراجع الدور الامريكي سواء في الفضاءات الاوروبية او في الفضاءات على صعيد العالم، اي تكون هناك شراكة ندية في قيادة الناتو وبالتالي في قيادة العالم. هذا جانب واحد من الرفض الامريكي لانضمام الاتحاد الروسي الى حلف شمال الاطلسي، مع انه جانب مهم جدا، ويكاد يكون اساسيا في هذا الرفض الامريكي، لكن ايضا هناك جوانب الاخرى، لا تقل اهمية عنه؛ الا وهي؛ اولا بقاء عدو استراتيجي يهدد دول الاتحاد الاوروبي، الا وهو الاتحاد الروسي. وثانيا؛ دفع الاتحاد الروسي الى سباق تسلح، لا قبل لروسيا من حيث القدرة الاقتصادية على الايفاء بمستلزماته المادية، مما ينعكس سلبا على الداخل الروسي. وثالثا؛ في هذه الاجواء وهي اجواء حرب، ولو كانت او ان تكون باردة، لكنها تقود الى تنشيط قوى الداخل الروسي، القوى الليبرالية، والعمل على توسعة وجودها وتأثيرها على الاوضاع الداخلية في الاتحاد الروسي، على العكس مما لو كان هناك سلام واستقرار وتعاون بين روسيا ودول الاتحاد الاوروبي وامريكا؛ تحت حماية ومظلة الناتو. رابعا؛ عندما افتراضا، ان تكون روسيا، او انها، عضو في حلف شمال الاطلسي، اي يجعلها هذا الانضمام، خارج صف الاعداء، عندها ستكون امريكا وحيدة، في مواجهة الصين الاخذة في النمو والتطور في جميع مناحي الحياة، والتي من اهمها؛ هو تنمية قدراتها وقواتها الردعية.
لأن دول الاتحاد الاوروبي سوف لن تشاطرها العداء للصين، التي ترتبط دول الاتحاد الاوروبي مع الصين بالتجارة والاقتصاد وما إليهما من مشاريع اخرى كثيرة، هي على درجة كبيرة من الاهمية لها اي لدول الاتحاد الاوروبي. ان هذا الامر وهو امرا افتراضيا؛ يحاصر مشاريع الولايات المتحدة في العالم، اي مشاريعها لقيادة العالم والتحكم في مصائر الدول والشعوب في المعمورة، بل انه سوف يهددها في عقر دارها. على هذا الاساس او هذا المرتكز في السياسة الامريكية، قاومت الولايات المتحدة؛ مشروع انضمام الاتحاد الروسي الى الناتو. الولايات المتحدة لا يمكن ان تعيش، وتتابع تطورها من غير ان يكون لها اعداء، وبالذات تطور المجمع الصناعي الامريكي. ان عزل روسيا، حتى وهي في اسوء ظروف عاشتها ابان حكم يلتسين في العقد الاخير من القرن العشرين، كان ولم يزل من مهمات الاستراتيجية الامريكية، كي تنفرد في تولي قيادة المنظومة الدولية الكونية، بلا منافس لها، ولو بعد حين. انه وهم من اكبر الاوهام؛ فهناك قوى عظمى وكبرى لها مصالحها في العالم، ولا يمكن لها ان تقبل بهكذا وضع، يتقاطع تماما مع تطور التاريخ. ان هذه السياسة الامريكية لجهة المصالح والمغانم لم تكن حصرا على امريكا فقط، بل ان جميع القوى العظمى وحتى القوى الكبرى في الكرة الارضية؛ تفكر وتخطط وتعمل على ضمان تلك المصالح والمغانم. الفرق هنا؛ ان امريكا تريد الانفراد، بينما بقية الدول العظمى، لا تريد الانفراد بتلك المغانم، بل تعمل على تكوين شراكات في هذا المجال او ذاك المجال، وفي هذا المكان من المعمورة، وفي ذاك المكان. انه صراع مصالح ليس اكثر وليس اقل، وليس له علاقة بالاستقرار الامني في كوكب الارض، ولا بالسلام والتعايش السلمي. ان العالم، ومنذ زمن ليس بالقصير؛ قد دخل في المرحلة الانتقالية، وهي مرحلة تسود فيها، الموازنات القلقة، والمضطربة، وسوف يظل العالم يعيش في هذه المرحلة، التي تكتنفها المخاطر الجمة، وبالذات حين ينزلق العالم، بسبب خطأ غير مقصود الى حرب كونية لا تبقي ولا تذر، مع ان هذا الاحتمال ليس له حظ وافر من الوجود على ارض الواقع، لكنه يظل يحمل الكثير من خطورة الانزلاق الى مواجهة واسعة النطاق، بين القوى العظمى. لذلك لم يكن امام روسيا بعد ان رفضا امريكا والناتو اعطاءها الضمانات الامنية التي طلبتها؛ الا ان تغزو اوكرانيا، ليتم لها تغيير قواعد اللعبة والاشتباك، وهي بهذا الغزو قد قلبت الاوضاع راسا على عقب. بصرف النظر عمن ما سوف يؤل إليه هذا الغزو، من نتائج على ارض الواقع لناحية الاوضاع في العالم، اي شكل النظام العالمي.. بعد هذه الحرب، وليس فشل الغزو او نجاحه، فهذا الامر هو في حكم المؤكد. صحيح ان العقوبات سوف تؤثر على روسيا، ولكنها لن تثني القيادة الروسية عن الذي خططت له، فهذه الحرب هي حرب مصيرية بالنسبة لروسيا. بوتين اضاف شروط جديدة لوقف هذا الحرب؛ وهي اعتراف الغرب بضم القرم وحيادية اوكرانيا ونزع سلاحها، واعتقد ان المقصود بنزع السلاح، هو ان تقدم اوكرانيا على صناعة السلاح النووي، والتي هي مؤهلة في صناعته في ظرف اسابيع ان لم اقل ايام، حسب خبراء هذا الشأن. أما تغير شكل العالم، اي مراكز القوى العظمى التي سوف تتحكم فيه، وهنا ما اقصده هو عدة سنوات، اي سنوات كثيرة، لكن البداية ستكون من اللحظة التي تضع الحرب في اوكرانيا اوزارها. ان عالم متعدد الاقطاب سوف يأخذ في التكون.. كما ان دول الاتحاد الاوربي لن تبقى بذات التبعية لأمريكا، اي انها سوف تبحث عن امنها ومن ثم عن مصالحها الذاتية بعيدا عن الهيمنة الامريكية، وحديثي هنا لا يدور عن زمن قصير، بل عن زمن طويل نوعا ما، انما لحظة البداية او التفكير بها ستكون من لحظة صمت المدافع. دول الاتحاد الاوروبي كانت تضرر كثيرا بفعل تعقيب خطوات امريكا، بما يخدم الاخيرة وهو بالضد من مصالح دول الاتحاد الاوروبي وبالذات فرنسا والمانيا، اللذان يشكلان قلب وقوة الاتحاد الاوروبي. لأول مرة في تاريخ المانيا ان ترصد ما مقداره اكثر من 113مليار دولار، لتطوير قدراتها العسكرية، وهذا الرقم مساوي لما ترصده روسيا لثلاث سنوات لذات الهدف. امريكا تتراجع في قوتها، وسوف تتراجع اكثر في المستقبل، كما ان روسيا وتحت ثقل العقوبات الاقتصادية هي الاخرى سوف تتراجع؛ لكنهما مع هذا سيظلان قوى عظمى او كبرى لهما ثقلهما في موازين القوى العالمية. كما ان اوروبا واقصد هنا فرنسا وبالذات المانيا سيكون لهما ثقلهما في التوازن الدولي. وباختصار ان عالم ما بعد الحرب في اوكرانيا لن يكون هو ذاته عالم ما قبل تلك الحرب. والله اعلم