يبالغ بعض المثقفين في الإنعزال عن المجتمع، وتطبع سلوك البعض منهم فوقية مقيتة كأنهم آلهة الهند القديمة حين يسيرون على الأرصفة أو حين يقفون لنقاش ما، أو حين يجلسون في مقهى، أو يتنادمون في صالون أدبي، أو حين يمرون على مكان، أو يصادفهم مثقف، أو محترف لعمل ما، ولكنه لايشبههم، فيتحولون عنه، ثم إن بعضهم ينسحب الى مجموعة من المثقفين الذين يشبهونه، فيجاريهم في الحديث، ويبادلهم المودة، ويتحزبون مع بعض ولبعض، وينطلقون في آفاق معرفية لايفهمها العامة من الناس، ولايطيقونها، ولايجدون إنها مفيدة لحاضرهم، ولا لمستقبلهم، فالعامة يبحثون عن حلول لمشاكلهم، وليس عن مشاكل تبعد الحلول خاصة حين يأخذ البعض بالتنظير والفلسفة وبيع الكلام هنا وهناك، ولايجدون مايقدمون لعامة الناس الباحثين عن عمل وأمان وسياسة واضحة من حكومات لاتفقه بشعبها ولاتعرفه ولاتريد شراكته في تحديد مستقبله والسير معه في مسار واضح نحو أهداف العيش الكريم والكرامة والحرية.
لايكفي أن تدعي الثقافة لكي تتكبر على المجتمع من حولك وتتصرف بوصفك سلطان زمانك، أو قديسا في معبد، فالمعرفة والعلم يتناغمان وينفصلان في آن، وليس من مصلحة المثقف التباهي بثقافته وهو عاطل عن خدمة مجتمعه، والتعاطي مع قضاياه ومشاكله، والتخلي عن مسؤولية البحث عن الحلول وحتى التضحية في سبيل ذلك بإعتبار إن المثقف يفهم ماعليه، ومايتطلب منه دوره الحيوي الذي يفرضه عليه قبوله أن يدعي الثقافة، فهي ليست فقط معرفة أشياء من أشياء، وتعلمها، بل هي وصفة أخلاقية متكاملة، لأن التثقيف هو التشذيب والتهذيب، وإبعاد الفاسد من الأفكار والإعتقادات، والتطهر من الأدران والنقائص التي تعلق بالثوب والجسد حتى يعود معافى سليما من العاهات والعلل التي تتربص به لتعلق بما إستطاعت من لباس وجسد، وحيث لابد من التخلص من تلك النقائص.
المثقف هو الذي يمتلك من الوعي بالمجتمع والناس مايؤهله لفعل شيء مختلف، ولاينبغي أن يبتعد عن مسؤوليته الجسيمة تلك، فإذا تخلى عنه ترك مجتمعه بلاحام ولاناصح ولامرشد يوجهه الى طريق الخلاص والوصول الى الآمال والغايات العظيمة، ولعل أحدهم كان متحمسا للمثقف ومدافعا عنه برغم علله، لكنني قلت له: هذا ليس دليلا كافيا على الثقافة والوعي والمعرفة مالم يكن من دور فالمخلوقات كلها مثقفة، وتعرف جيدا ماعليها أن تقوم به في الحياة غير إن مايميز الإنسان هو العقل والحكمة. والحيوان لايخطط كثيرا ولايجتهد كما الإنسان الذي يدبر الأمور بعقله الواعي، وإلا فالحمار كائن مثقف لأنه يعلم ماعليه، والقرآن كان واضحا في ذلك بقوله: كل يعلم تسبيحه وصلاته.. وهي ثقافة المعرفة بعبادة الواحد الأحد الذي خلق الخلائق جميعها، وأوجد نظاما دقيقا لإدارة الكون، ولم يسمح لأحد من كائناته العبث بذلك النظام الثابت.
ينطلق المثقف بعد الإدراك الكامل لمسؤوليته نحو مجتمعه، ويتحرك وفقا لمصلحة ما له، أو لقومه ويحاول جاهدا تنوير مجتمعه الذي يمتلك من المسلمات مايملأ مجلدات ويستنفد الحبر الكثير، فإذا قرر النكوص فهذا شأنه لأن المجتمع صعب المراس، ولديه الكثير ممايعيقه عن إدراك الحلول الناجعة التي تنتشل الناس من الظلام والتيه والفوضى، وتساعدهم في العبور الى الضفة الآمنة من الحياة حيث تتاح لهم المزيد من الفرص، ويتمكنون مع العزيمة الراسخة من الوصول الى الغايات المنشودة، بينما يبقى هو ساهرا يفكر كيف يديم زخم التحول ولايسمح بالنكوص وليس مهما لديه نيل المكاسب والمناصب التي هي شأن آخرين فكم من ثوار وأبطال وزاهدين تحولوا مع التغيير الى رجال مناصب وأموال وإنفصلوا عن الناس الذين كانوا يرون فيهم قديسين وأدركوا بعد ذلك إن القديس ذاته هو إبليس.