قُدِّمتْ على مسرحِ الرشيد مسرحيةُ ( جنون الحمائم ) تاليف وإخراج الدكتورة عواطف نعيم، وانتاج المركز الثقافي الفرنسي، بالتعاون مع دائرة السينما والمسرح. المسرحيةُ مأخذوةٌ عن مسرحيةِ الكاتب والفيلسوف الفرنسي البير كامو . ولعلّ ذلك ما جعلَ عواطف في هذا العرض تحاولُ البقاءَ في الدائرةِ الفلسفية للعمل، كي لاتبدو الحكايةُ بعدَ تعريقِها مجرّدَ قصةٍ مأساوية عائلية. فالبير كامو لايكتبُ قصصاً أو روايات بل تشكّلُ الحكاياتُ التي ينسجُها أو تلك التي يستحضرها من التاريخ والاسطورة تشكّل ممراً وتمثّل عينات لفلسفته وموقفه من العالم حيث يقول “إن العالمَ كلَه بذاتِه ليس معقولاً … وانني كلما اردتُ فهمَ الأشياءِ فيه تاكّد استقلالُها عني .. فالأشياء تجهلنا ” حيث لايمكن التفاهم بين الكون ورغبة الانسان في معرفته وهذا سبب قلق العصر.. قلق الانسان في هذا العالم الذي وصفه كامو بالصخرة ..الصخرة المتحجرة. فالتفاهم المستحيل بين الإنسان والكون، وراء أي قصة للفيلسوف.
بناء على ذلك اختارت عواطف نعيم لمسرحيتها المستعارة من (سوء تفاهم ) عنوانا ملغوماً ايضاً كونه يشير منذ البدء الى أن شخوص المسرحية رغم إرتكابهم جرائم القتل لكنهم ضحايا جميعاً، ضحايا هذا الالتباس الذي يحدث .. غياب معلومة بسيطة تؤدي الى ماساة. فلو أنّ الابنَ العائدَ أبلغَهم بحقيقته .. لماكان وجودٌ قصة اساساً .. ولو أن أحد الثلاثة تعرّف على شخصِ العائد لما حدثت المأساة.
لكن النسيج الكاموي الذي حافظتْ عواطف عليه نصاً واحاطتْه بحذر وحركة ممثلين أبقى العرضَ في مستواه الفلسفي مع اسقاط المضمون على حالاتٍ عراقيةٍ من خلالِ ايحاءاتِ الحوار وباللهجة العراقية على ألسُنِ الممثلين . وبهذا نجحت المؤلفة المخرجة بتحرير القصة من الحكائي لصالح الفلسفي .. من قصة أمّ وأختٍ ومعهما خادم يعملون في خانٍ أو نزْل، يقومون في العادة بقتل النزيل للحصول على المال، وكانت الأم قد شجعت ابنها على الرحيل ليرى عالماً آخر، فيعود بعد عشرين عاما، لم يتعرفوا على ملامحه ولم يخبرهم بالحقيقة ، فيعاملونه كأي نزيل غريب ويقتلوه .
انه (سوء تفاهم) عند كامو .. (جنون حمائم) عند عواطف نعيم . وفي الحالتين انما هو موقف ابعد من الحكاية . لدى كامو ازمة فهم الاشياء والحنين الانساني لهذا الفهم المستحيل، وفي عرضنا العراقي . سوء الفهم يجعلهم ضحايا جميعهم.
ويبدو أن المؤلفة عرّقت المسرحية أو تناصت معها في التاليف لهجة وحالاً، تمثّل ذلك في حث ابنها على الهجرة من واقعه، و وحديث الخادم المحتقن بمرارة الواقع وعلاقات الناس فيه، والأخت التي جفّتْ أحلامُها وهي تتدفق رغبةً وتوقاً للخروج من عالم مغلق رث لاجدوى من البقاء فيه . وأخيرا دلالة مقتل المهاجر العائد الذي لم يعرف أن لعبةَ الإخفاء الخفيفة لم تعد تصلح مع عائلتِه التي جعلها واقعُها نخبةً من المجانين القتلة .
ماكان لهذه الابعاد والدلالات الصارخة الصريحة أنْ تتجسّد لولا الأداء المحترف البليغ للممثلين الذي يحتاج دراسةً منفردةً لتمثيلهم في هذا العرض، وهم بلا شك الكبيرة شذى سالم سيدة الأداء الرفيع في دور الأخت ، والكبير عزيز خيون الذي عمِل بمستويين عاليين من الايهامي والواقعي موظفاً طاقاته المعهودة في الصوت والتلوين وانسيابية التحولات في دورِه رغم تعقّدِها، وبالطبع المبدعة عواطف نعيم التي ملكت أسرارَ العرض، وهي مؤلفته وتدركُ بالضبط دلالاته. فضلاً عن الأداء الحذِر للإبن مصطفى حبيب الذي أسعده الحظ للتميّز بين هؤلاء المحترفين.
أخيرا وليس آخراً لابدّ من الثناء على جهد الدكتور علي محمود السوداني مصمم السنوغرافيا المتقن بتوظيف عناصر العرض إضاءة ناظم شجر ومحمد طاهر والمصطفى شاكر وازياء ساهرة عويد وموسيقى ومؤثرات صوتية لضياء عايد وديكور حسين علاوي والتحية لكادر العمل المساعد اخراجا بهاء خيون وادارة مسرحية شيماء جعفر.