في‭ ‬حقبة‭ ‬الثروة‭ ‬النفطية‭ ‬الصاعدة‭ ‬في‭ ‬السبعينات‭ ‬والثمانينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬طبّق‭ ‬العراق‭ ‬نهجاً‭ ‬عشوائياً‭ ‬لدعم‭ ‬القطاع‭ ‬الزراعي،‭ ‬انيط‭ ‬لجهات‭ ‬حزبية‭ ‬عليا،‭ ‬ولاقت‭ ‬فشلاً‭ ‬واضحاً‭ ‬،‭ ‬برغم‭ ‬الشعارات‭ ‬الانتاجية‭ ‬السليمة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تجد‭ ‬صدى‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬الواقع،‭ ‬و‭ ‬تمتّع‭ ‬الفلاحون‭ ‬في‭ ‬الارياف‭ ‬بميزات‭ ‬الجمعيات‭ ‬التعاونية‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬اداء‭ ‬واجباتها‭ ‬الإنتاجية‭ ‬المفترضة،‭ ‬وصار‭ ‬الهم‭ ‬الأكبر‭ ‬للفلاحين‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬سيارات‭ ‬حوضية‭ ‬وحقلية‭ ‬من‭ ‬الدولة‭ ‬،‭ ‬وتحولت‭ ‬الى‭ ‬وسيلة‭ ‬استرزاق‭ ‬لهم‭ ‬في‭ ‬اعمال‭ ‬أخرى‭ ‬داخل‭ ‬المدن،‭ ‬بعد‭ ‬هجرة‭ ‬الريف‭ ‬تدريجيا‭ ‬وانحسار‭ ‬الإنتاج‭ ‬الزراعي‭ ‬والحيواني‭ ‬فيه،‭ ‬وشيوع‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬اعمال‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬التي‭ ‬تتوافر‭ ‬فيها‭ ‬المنتجات‭ ‬الزراعية‭ ‬من‭ ‬فواكه‭ ‬وخضراوات،‭ ‬والحيوانية‭ ‬من‭ ‬بيض‭ ‬ولحوم،‭ ‬أرخص‭ ‬من‭ ‬كلفة‭ ‬انتاجها‭ ‬المحلي‭ ‬بفعل”‭ ‬خطأ‭ ‬آخر”‭ ‬من‭ ‬الدولة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬هي‭ ‬المستورد‭ ‬والموزع‭ ‬الوحيد‭ ‬وبسعر‭ ‬مدعوم‭ . ‬وكان‭ ‬“المجلس‭ ‬الزراعي‭ ‬الأعلى‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬أشرف‭ ‬عليه‭ ‬نائب‭ ‬صدام‭ ‬حسين‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة،‭ ‬هيكلاً‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬روح‭ ‬أو‭ ‬فاعلية،‭ ‬يعمل‭ ‬موسمياً‭ ‬خارج‭ ‬أي‭ ‬افق‭ ‬استراتيجي،‭ ‬لذلك‭ ‬حين‭ ‬وقع‭ ‬الحصار‭ ‬الدولي‭ ‬على‭ ‬العراق‭ ‬بعد‭ ‬حماقة‭ ‬غزو‭ ‬الكويت،‭ ‬وجد‭ ‬البلد‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أدنى‭ ‬إمكانات‭ ‬زراعية‭ ‬وحيوانية‭ ‬تساعد‭ ‬على‭ ‬الاكتفاء‭ ‬الذاتي،‭ ‬الاجباري‭ ‬بحسب‭ ‬الظرف‭ ‬الداهم،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬بلغ‭ ‬الحصار‭ ‬الأمريكي‭ ‬والدولي‭ ‬والعربي‭ ‬لبلادنا،‭ ‬مبلغاً‭ ‬بشعاً‭ ‬لم‭ ‬يعرفه‭ ‬التاريخ‭ ‬البشري‭ ‬من‭ ‬قبل‭.‬

‭ ‬وفي‭ ‬الحقبة‭ ‬الجديدة‭ ‬من‭ ‬حكم‭ ‬العراق،‭ ‬أصبحت‭ ‬الزراعة‭ ‬مجرد‭ ‬حقيبة‭ ‬ثانوية‭ ‬تتقاذف‭ ‬بها‭ ‬الأحزاب‭ ‬والتحالفات‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬بورصة‭ ‬التسعيرات‭ ‬والغنائم،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬النظر‭ ‬الى‭ ‬واقع‭ ‬بلاد‭ ‬الرافدين‭ ‬المزري،‭ ‬تلك‭ ‬البلاد‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬الزراعة‭ ‬أبرز‭ ‬عناوينها‭ ‬وألقابها‭ ‬اللامعة‭ ‬عبر‭ ‬القرون‭.‬

الان،‭ ‬هناك‭ ‬هجرة‭ ‬فلاحية‭ ‬وريفية‭ ‬اجبارية‭ ‬جديدة،‭ ‬ليست‭ ‬بسبب‭ ‬غياب‭ ‬استراتيجيات‭ ‬زراعية‭ ‬حقيقية‭ ‬للبلاد‭ ‬في‭ ‬العقدين‭ ‬الأخيرين‭ ‬فحسب،‭ ‬وانما‭ ‬تحت‭ ‬ضغط‭ ‬عامل‭ ‬الجفاف‭ ‬الرهيب‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬المسطحات‭ ‬المائية‭ ‬التاريخية‭ ‬في‭ ‬وجودها،‭ ‬مجرد‭ ‬أراض‭ ‬متشققة‭ ‬،‭ ‬يتشقق‭ ‬قلب‭ ‬الناظر‭ ‬اليها‭ ‬لشدة‭ ‬البوس‭ ‬الذي‭ ‬تعاني‭ ‬منه،‭ ‬وقد‭ ‬هلكت‭ ‬الثروة‭ ‬الحيوانية‭ ‬الطبيعية‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬المدجنة،‭ ‬وهجر‭ ‬الفلاحون‭ ‬القرى‭ ‬في‭ ‬الاهوار‭ ‬بجنوب‭ ‬البلاد‭ ‬وعند‭ ‬المسطحات‭ ‬والبحيرات‭ ‬المائية‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬محيط‭ ‬بحيرة‭ ‬ساوة،‭ ‬وانحسرت‭ ‬بحيرة‭ ‬سد‭ ‬الموصل‭ ‬العملاقة‭ ‬حتى‭ ‬خرجت‭ ‬الاف‭ ‬الدونمات‭ ‬من‭ ‬تحتها‭ ‬لتواجه‭ ‬مصيراً‭ ‬مجهولاً‭.‬

ملف‭ ‬المياه‭ ‬والجفاف‭ ‬يجري‭ ‬تسييسه‭ ‬وتوظيفه‭ ‬بوقفات‭ ‬احتجاجية‭ ‬ضد‭ ‬دولة‭ ‬هنا‭ ‬أو‭ ‬هناك،‭ ‬وكأنّ‭ ‬مشاكل‭ ‬العراق‭ ‬وليدة‭ ‬ظروف‭ ‬شهرين‭ ‬عابرين‭ ‬وانه‭ ‬يمكن‭ ‬حلها‭ ‬بهذا‭ ‬الاسلوب‭.‬

بقي‭ ‬البلد‭ ‬معتمدا‭ ‬على‭ ‬سدود‭ ‬بناها‭ ‬النظام‭ ‬السابق،‭ ‬واخرى‭ ‬بينت‭ ‬في‭ ‬الحقبتين‭ ‬الملكية‭ ‬والعارفية،‭ ‬وسمعنا‭ ‬عن‭ ‬مشاريع‭ ‬لسدود‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ترى‭ ‬النور،‭ ‬وبعد‭ ‬ان‭ ‬سبق‭ ‬السيف‭ ‬العذل،‭ ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬تجدي‭ ‬حلول‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬وقد‭ ‬ضربت‭ ‬سهام‭ ‬الاحتباس‭ ‬الحراري‭ ‬العراق‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬خطير‭.‬

‭ ‬لا‭ ‬عجب‭ ‬ان‭ ‬يجف‭ ‬نهرا‭ ‬دجلة‭ ‬والفرات‭ ‬نهائيا‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬وشيكة،‭ ‬ولو‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬تدابير‭ ‬استراتيجية‭ ‬في‭ ‬خلال‭ ‬عقد‭ ‬كامل‭ ‬ولا‭ ‬أقول‭ ‬عقدين،‭ ‬لربما‭ ‬تقلصت‭ ‬الاثار‭ ‬السلبية‭ ‬لهذا‭ ‬الجفاف‭ ‬وشح‭ ‬المياه‭. ‬

بقيت‭ ‬الحكومات‭ ‬تنظر‭ ‬ببلاهة‭ ‬وعدم‭ ‬مسؤولية‭ ‬الى‭ ‬دجلة‭ ‬والفرات‭ ‬وهما‭ ‬ينسابان‭ ‬نحو‭ ‬الخليج‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬الإفادة‭ ‬من‭ ‬المتاح‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬المياه‭.‬‭ ‬كيف‭ ‬يهتمون‭ ‬بهذا‭ ‬الامر‭ ‬الحيوي،‭ ‬وقد‭ ‬عشعشت‭ ‬في‭ ‬رؤوسهم‭ ‬المصالح‭ ‬الشخصية،‭ ‬ونخرَ‭ ‬كياناتهم‭ ‬الفساد؟

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *