في ثمانينيات القون الماضي، إبان الحرب العراقية الإيرانية بدأت تنتشر على الألسنة هذه المقولة على لسان العوائل التي كان يتقدّم لخطبة بناتهن أحدٌ ما، ورافقت تلك الفترة امتيازات كانت تُعطى للعسكريين، ما ين قطعة أرض أو سيارة مع راتب للضباط كان جيداً بالنسبة لغيرهم من المراتب، فمن امتلك هذه المواصفات فهو الأكثر حظاً وطلباً عند تلك العوائل، فانتشرت تلك المقولة الشهيرة: (يا ملازم.. يا ما لازم)، يعني إما أن يكون المتقدم ضابطاً فأقبل به أو لا يتقدّم فلا حاجة لنا به.
رباط السالفة، لا أدري كيف تسللت الفكرة الغريبة إلى فضاء الدراسات العليا، فأصبح الطلبة وقبلهم مشرفوهم ولسان حالهم (يا امتياز يا ما أقبل!)، حتى إن هذا التقدير قد تم ابتذاله فتحوّل إلى مباهاة سخيفة لا يصدّقها إلا صاحبها الذي كيلَت إليه، إلى نهاية تسعينيات القرن الماضي وما قبل ٢٠٠٣ كانت درجة الامتياز حالة نادرة ينالها طلاب نادرون أيضاً في الأعم الأغلب، وكانت درجة (جيد جداً) كافية للتباهي والفخر، ولكن مع تسلل المستويات الضعيفة علمياً، والتي تحتاج وقتاً لتتأهل لمهنة التدريس الجامعي، بدأت الدرجات تأخذ بالارتفاع ولا تتراجع، تذكّرنا بارتفاع سعر صرف الدولار في تلك السنوات العجاف. تشهد الجامعات وكلياتها منذ ما يقارب العقدين من السنوات حالة (هوس) بدرجة الامتياز، فتحوّلت منصات المناقشات -وقبلها جلسات ترشيح المناقشين- إلى سوق (بازار)، تتدخّل فيه الأمزجة والطلبات، فيتم استدعاء شخصيات هزيلة علمياً لم تفقه بعد منزلة الأستاذ الجامعي، يكفيها ويملأ بالونَها صوره وهو على منصة المناقشة على صفحات الفيسبوك، أو يتم استدعاء شخصية ترتبط بالمشرف على الرسالة علاقة جيدة ليضمن درجة الامتياز، أو يتم استدعاء مناقش من خارج الجامعة أو المدينة، فيكون أمام موقف أخلاقي لردّ جميلِ استدعائِه، أو ليضمن استدعاءه ثانية فيقوم بكيل أعلى درجة لرسالة أو أطروحة فيها من الثغرات أو الضعف ما يجعلها غير صالحة للمناقشة أصلاً، لو كانت هناك إرادة حقيقة لدعم التوجه الذي يضبط إيقاع الدراسات العليا وترصين العملية التعليمية. أذكر أن حالاتٍ عدّة انتهت إلى شبه قطع علاقة بين الزملاء في القسم الواحد بسبب هذه الإشكالية، الشيء الذي استغرب من عدم فهمه من بعض الأساتذة هو أن الدرجة هي جهد الطالب بالأصل والأساس، وليست تقويماً للمشرف، طبعاً في أغلب الحالات، ولا يتفهّم أحدهم أن الطالب شخص مغادر وليس أصلاً وباقياً، والخطأ كل الخطأ من ربط العلاقات الإنسانية بالقضايا العلمية، ولو تم إجراء مسحٍ ميداني حقيقي لنسبة التقدير المعطاة للطلبة في الدراسات العليا، لكانت النتيجة أن هناك أقساماً أصبح تقدير (الامتياز) هو الأصل والطبيعي ودونه هو الفعلُ النشاز، بل قد يصل الأمر إلى أن تكون نسبة من تُعطى لهم هذه الدرجة مع من تعطى لهم درجة (جيد جداً) هي نسبة تسعة إلى واحد، أما درجة (جيد) فأظنّ أنها تسير نحو الاندثار، وأعجبني ردّ إحدى الأستاذات مرّة عندما عوتبت لعدم إعطائها درجة (الامتياز)، قالت: لو أنا كتبت الرسالة وأنا بدرجة أستاذ ما أخذت هذه الدرجة!، وقد أحسنتْ التعليمات الجديدة التي تطالب بتقديم لجنة المناقشة تقريراً تبرر فيه هذا الامتياز، ومع ذلك فليس ثمة مؤشر أداء حقيقي يضبط ذلك، لأنه في الغالب ستقدّم اللجنة تقريراً يتضمن عبارات خاوية مثل: (الموضوع جديد، استطاع الباحث أن يفعل كذا.. وكذا وغيرها من العبارات المطاطة غير المنضبطة)، ولكن ليس ثمة رقابة على هذا التقرير وجهةٌ تدقق مدى جدية محتواه.
القضية تتعلق بمستوى أمانة التدريسي على أداء مهمته العلمية بموضوعية وباحترافية، فلو تمت مراقبة هذه الفوضى لما وصل الحال إلى تناقضات عجيبة تحدث في مناقشة تأتي على الرسالة من القواعد ثم تنتهي بأعلى درجة من قبل المناقش ذاته!، القليل من المسؤولية قد يكون خطوة منقذة لمسيرة التعليم العالي ورصانتها التي ندندن فيها.