يتبادر إلى الأذهان كلام واستفسار من بعض البسطاء من الناس، ومن بعض الذين لم يعرفوا أهل بيت النبي، ولم يفهموا تربية علي بن أبي طالب لأبنائه وأقربائه وأصحابه. والسؤال هو أَنَّ مسلماً بن عقيل بن أبي طالب بعد أن أرسله الإمام الحسين إلى الكوفة ليستطلع له الأمر هناك، حصلت له فرصة مواتية جداً لقتل عبيد الله بن زياد الذي كان يُعدُّ واحداً من أهم قادة يزيد بن معاوية، بل هو قائد العملية العسكرية الكبرى التي انتهت بقتل الإمام الحسين. فلماذا تراجع مسلم عن قتل هذا العدو، بل يقال: إنه رفض تلك الفكرة أصلاً. ألم يكن قتل هذا الرجل باباً وفتحاً مُهِمّاً لكي يدخل الإمام الحسين الكوفة بسلام ويستتب له الأمر ويأخذ البيعة وتنتهي القضية بهدوء؟
الجواب عن هذا السؤال وعلى الرغم من بساطته مهم جداً، ويجب أن يعرفه الأصدقاء قبل الأعداء؛ لأنَّ معرفته تدخل ضمن معرفة الدروس والعبر التي أراد الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه إيصالها إلى الناس جيلاً بعد جيل والحادثة كما رويت تقول: إن شريك بن عبد الله الحارثي وهو من كبار أصحاب عليّ بن أبي طالب شهد صفِّينَ وقاتل مع عمّار بن ياسر، كان في بيت هانيء بن عروة وقد أصيب بمرض فعلمَ عبيد الله ابن زياد بذلك وقرَّر عيادته، فاتفق شريك مع مسلم بن عقيل الذي كان موجوداً في الكوفة رسولاً للإمام الحسين يستطلع له الأمر قبل مجيئه.
اتفق مسلم مع شريك على قتل ابن زياد بعد دخوله إلى البيت وذلك بعد إشارة من شريك نفسه وهي طلب الماء، وفعلاً جاء ابن زياد ودخل البيت والحارثي ينتظر مُسْلِماً أّنْ يقوم بأهم عملية تنقذ المجتمع المسلم من هذا الطاغية.
تأخّر مسلم كثيراً وبدأ الخوف والقلق والدهشة تسيطر على شريك وكان يكرّر الإشارة المتفق عليها بلا جدوى، ثم بدأ شريكاً بإنشاد أبياتاً من الشعر ليُسمع مسلماً علّه يتحرّك وينفّذ الأمر:
ما تنظرون بسلمى لا تحيوهــــــــا حيوا سليمى وحيوا من يحييها
هل شربة عذبة أُسقى على ظمأ ولو تلفت وكانت منيتي فيها
وإن تخشيت من ســـــلمى مراقبة فلست تأمن يوماً من دواهيها
ولم يزل يكرّره وعينه على مكان اختباء مسلم ثم صاح بصوت رفيع يسمع مسلماً:
اسقونيها ولو كان فيها حتفي…
لم يجبه مسلم وخرج ابن زياد من البيت سالماً لم يصبه أي أذىً باستثناء الدهشة والذهول الذي أصابهما كلٌ على حده.
سأل شريك مسلم عن سبب عدم تنفيذه عملية القتل فأجابه بكل ثقة وصلابة وعزّة نفس: (خصلتان، أما إحداهما: فكراهة هانئ أن يقتل في داره. وأما الأخرى: فحديث حدثنيه النَّاسُ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله (إنَّ الإيمان قيد الفتك)( ).
لقد لاحظ مسلم أن هاني كره أن يقتل ابنُ زياد في بيته فكان هذا أحد الأسباب المهمة لرفض مُسْلمٍ قتل ابن زياد؛ لأنَّ القاعدَة الإسلامية والفقهية لا تجيز لأيِّ شخصٍ أن يتصرّف بدون موافقة صاحب البيت. وهذا الدرس الكبير يقدّمه واحد من مدرسة عليّ بن أبي طالب والحسن والحسين، فهو لا يفعل أي شيء مهما كان عظيماً إن كان مخالفاً للقواعد الفقهية ومنافياً للأخلاق الإسلامية.
وقد يثار سؤال آخر من الناحية الفقهية في هذا الموضوع إذ يقول الفقه بأنه إذا توقف واجب أهم على مقدّمة محرّمة فلابد من الحفاظ على ذلك الواجب الأهم، ولا يجوز تبرير ترك الواجب الأهم في سبيل حرمة المقدّمة. مثال على ذلك إذا توقّف إنقاذ نفس محترمة من الغرق على اجتياز أرضٍ مغصوبةٍ لا يرضى صاحبها باجتيازها حيث تسقط هنا حرمة هذا المالك ورضاه؛ لان النتيجة أهم من هذه المقدمة.
فقيام مسلم بقتل هذا اللعين وتخليص الإسلام منه أهم من موافقة أو عدم موافقة هاني، فلماذا لم يفعلها مسلم وهو الأعلم بالفقه والمصلحة العامة؟
السؤال وجيه جداً، ومهم جداً معرفة الجواب لأننا تقيّدنا في هذا البحث بإيجاد الأجوبة دفعاً للتشكيك الذي قد يحدث إرباكاً وسوء فهم غير محمود.
أعتقد أن الإمام الحسين عليه السلام يعلم علم اليقين أن مسلماً الذي دخل الكوفة رسولاً من قبله، هو عالم وفقيه وقائد ميداني لا يشقّ له غبار، ويعلم كذلك انه يستطيع تقدير الأمور حسب الظروف التي يراها مناسبة ولم يقيده بشيء لأنه ثقته ووزيره والمفضّل عنده، وهو يعلم أن مسلم بن عقيل هو تربية عليّ بن أبي طالب الذي كان شعاره بناء الأمّة وتصحيح مسارها الذي انحرف بعد رحيل الرسول صلى الله عليه وآله. ولو نفَّذ مسلم ما أراده شريك وعمل بقاعدة الأهم والواجب فانه لم يقترف محرماً لكنه سيؤسس لقاعدة أخرى هي (الغاية تبرر الوسيلة) وستشكل خطراً على النظرية الإسلامية التي تعمل وفق الظروف الموضوعية. فتارة تحتاج الأمة إلى تربية وتوعية وبثّ الروح الأبوية والإسلامية، وتارة أخرى تحتاج إلى القتال والجهاد وحمل السيف وهكذا.
كان مسلم يعلم أن الأمّة بحاجة إلى بثّ الروح العلوية وتأسيس وترسيخ المبادئ الإسلامية الحقيقية التي جاء بها رسول الله ووصيه عليهما السلام ورفض الانحرافات التي خلقها الخلفاء الثلاثة. وهذا ما دفعه إلى التقيد بالثوابت الأخلاقية والقيم الإنسانية قبل النظر إلى المصلحة الآنية رغم أنها مصلحة مهمة وضرورية في تلك الفترة، إلا انه يعلم أن بناء القاعدة الجماهيرية المستقبلية أفضل من تحقيق نصر سرعان ما يزول بانتهاء الحالة الانفعالية والحرارة القلبية لدى بعض المسلمين والموالين.
وهناك أمور أخرى هي من صنف الغيبيات والإلهيات التي لا يعلمها إلا الله والراسخون في العلم، ممكن أن تكون جواباً لمن أراد معرفة سبب تصرف مسلم بن عقيل، ومن بينها أنَّه كان مسدَّداً وملهماً من قبل الله تعالى كما أثبتنا في فقرة سابقة أن الأنبياء والأوصياء إضافة إلى الأولياء ممكن أن يكونوا ملهمين من قبل الباري عز وجل إن كانت هناك ضرورة وفائدة ومصلحة للإسلام.
وأود أن أوجه سؤالي للمشكّكين: ماذا سيكتب التاريخ لو أن مسلم بن عقيل بن أبي طالب رسول الإمام الحسين بن عليّ بن أبي طالب وثقته والمفضل عنده يقوم بعمل لا إنساني ولا أخلاقي ويقتل الضيف بطريقة الغدر والمكر؟ هل سيكون اسمه خالداً ومرصّعاً بأحرف الذهب كما هو الآن؟ وهل سيسكت التاريخ عن الحسين المرسل لهذا الرسول؟ وهل ستتوقف الأقلام عن التشهير والذمّ بعمّه علي بن أبي طالب وجدّه أبي طالب وأبيه عقيل بن أبي طالب؟
أتصوّر أن الإعلام سيقوم بدور سيء كما هو عليه غالباً وسيشن حملات شعواء على النبي والوصي والأئمة جميعاً، إن فعل مسلم ما يريده الناس البسطاء الذين يشكلون عليه عدم القيام بما ينبغي.
.