قَولُ الحُسينِ السِّبط (ع) {المَغرُورُ مَنِ اغترَّ بِكُم}.
وقد وصفَ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) قبلَ ذلكَ حالَ النَّاسِ التي قد يغترَّ بها المرءُ قائِلاً {أَيُّهَا النَّاسُ الْمُجْتَمِعَةُ أَبْدَانُهُمْ الْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ كَلَامُكُمْ يُوهِي الصُّمَّ الصِّلَابَ وفِعْلُكُمْ يُطْمِعُ فِيكُمُ الأَعْدَاءَ! تَقُولُونَ فِي الْمَجَالِسِ؛ كَيْتَ وكَيْتَ فَإِذَا جَاءَ الْقِتَالُ قُلْتُمْ؛ حِيدِي حَيَادِ! مَا عَزَّتْ دَعْوَةُ مَنْ دَعَاكُمْ ولَا اسْتَرَاحَ قَلْبُ مَنْ قَاسَاكُمْ، أَعَالِيلُ بِأَضَالِيلَ وسَأَلْتُمُونِي التَّطْوِيلَ دِفَاعَ ذِي الدَّيْنِ الْمَطُولِ.
لَا يَمْنَعُ الضَّيْمَ الذَّلِيلُ! ولَا يُدْرَكُ الْحَقُّ إِلَّا بِالْجِدِّ! أَيَّ دَارٍ بَعْدَ دَارِكُمْ تَمْنَعُونَ ومَعَ أَيِّ إِمَامٍ بَعْدِي تُقَاتِلُونَ؟! الْمَغْرُورُ واللَّه مَنْ غَرَرْتُمُوه ومَنْ فَازَ بِكُمْ فَقَدْ فَازَ (واللَّه) بِالسَّهْمِ الأَخْيَبِ ومَنْ رَمَى بِكُمْ فَقَدْ رَمَى بِأَفْوَقَ نَاصِلٍ.
أَصْبَحْتُ واللَّه لَا أُصَدِّقُ قَوْلَكُمْ ولَا أَطْمَعُ فِي نَصْرِكُمْ ولَا أُوعِدُ الْعَدُوَّ بِكُمْ.
مَا بَالُكُمْ؟! مَا دَوَاؤُكُمْ؟! مَا طِبُّكُمْ؟! الْقَوْمُ رِجَالٌ أَمْثَالُكُمْ.
أَقَوْلًا بِغَيْرِ عِلْمٍ! وغَفْلةً مِنْ غَيْرِ وَرعٍ ! وطَمَعاً فِي غَيْرِ حَقٍّ؟!}.
فما الذي يُسبِّب بأَن يغترَّ المرءُ بشيءٍ؟! وما هي عاقبةُ الإِغترار؟! وهل أَنَّهُ [الإِغترار] يتعلَّق بالنَّاسِ فقط أَم بأَشياءَ أُخرى؟!.
١/ الإِغترارُ لا يتعلَّق بأَمرٍ واحدٍ، فقد تغترَّ بفكرةٍ أَو نهجٍ أَو شخصٍ أَو رأيٍ أَو خبرٍ أَو مشرُوعٍ أَو وعدٍ من كذَّابٍ أَو أَيَّ شيءٍ آخر يترُك فيكَ وفي سلوكِكَ وطريقةِ تفكيركَ أَثراً سلبيّاً إِذا اغتررتَ بهِ ولم تتثبَّت منهُ قبلَ أَن تقبلهُ أَو ترفضهُ، تعتقِد بهِ أَو تكفُر بهِ.
٢/ وإِنَّ أَكثر الأُمور التي يغترَّ بها المرءُ هو الإِنسان ذاتهِ، فهوَ الشَّيء الأَكثر قدرةً في هذهِ الحياة على التلوُّن والتستُّر والتَّضليل، ولذلكَ فالإِغترارُ بهِ أَمرٌ شائعٌ في تاريخِ البشريَّة.
٣/ فكيفَ يمكنُ أَن نتجنَّبَ الإِغترار؟!.
أ/ بالإِختبار، ففي عهدهِ للأَشتر النَّخعي يوصيه أَميرِ المُؤمنِينَ (ع) بقَولهِ {ثُمَّ لَا يَكُنِ اخْتِيَارُكَ إِيَّاهُمْ عَلَى فِرَاسَتِكَ واسْتِنَامَتِكَ وحُسْنِ الظَّنِّ مِنْكَ، فَإِنَّ الرِّجَالَ يَتَعَرَّضُونَ لِفِرَاسَاتِ الْوُلَاةِ بِتَصَنُّعِهِمْ وحُسْنِ خِدْمَتِهِمْ ولَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ النَّصِيحَةِ والأَمَانَةِ شَيْءٌ، ولَكِنِ اخْتَبِرْهُمْ بِمَا وُلُّوا لِلصَّالِحِينَ قَبْلَكَ فَاعْمِدْ لأَحْسَنِهِمْ كَانَ فِي الْعَامَّةِ أَثَراً وأَعْرَفِهِمْ بِالأَمَانَةِ وَجْهاً، فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى نَصِيحَتِكَ لِلَّه ولِمَنْ وُلِّيتَ أَمْرَه} خاصَّة في زمنِ الفِتنِ {فَخُذْ بِالْحَزْمِ ، واتَّهِمْ فِي ذَلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ} فلا تكتفي منهُ هويَّتهُ أَو تاريخهُ أَو خلفيَّتهُ أَو حتَّى تضحياتهِ، فالإِنسانُ يحمِلُ في نفسهِ القابليَّة على الإِنقلاب في أَيَّةِ لحظةٍ، الإِنقلابُ على ماضيهِ النَّاصع وتضحياتهِ السخيَّة وهويَّتهِ وخلفيَّتهِ العقديَّة والفكريَّة.
يقولُ تعالى مُتحدِّثاً عن واحدةٍ من تجاربِ الإِنقلاب بعدَ الإِستقامةِ {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ* وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} وقولهُ تعالى في قُصَّةالإِنقلابِ الجماعي {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}.
فالخطابُ القُرآني في الآيةِ درسٌ مُستمِرٌ للنَّاسِ، يُصوِّرُ مَن آتاهُ الله تعالى آياتهِ بالكلبِ لأَنَّهُ لم يحتفِظ بمنزلتهِ ولم يحترِم تاريخهِ وخلفيَّتهِ فزلَّ عن كُلِّ ذلكَ في أَقسى اختبارٍ كانَ يستحقَّهُ لإِثباتِ قُدرتهِ على الإِلتزامِ بشروطِ الإِحتفاظِ بمنزلتهِ من عدمِها.
وما قُصَّة الزُّبَير التي يحكيها لنا أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) ببعيدةٍ عنَّا {مَا زَالَ الزُّبَيْرُ رَجُلًا مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ ، حَتَّى نَشَأَ ابْنُه الْمَشْئُومُ عَبْدُ اللَّه} فلقد اختبرهُ الله تعالى وابتلاهُ بإِبنهِ فزلَّ!.
كثيرٌ منَّا يرفض أَن يُمَسَّ [الزَّعيمُ] بشعرةٍ مُتَّكِئاً على تاريخهِ أَو خلفيَّتهِ، وهذا شيءٌ خطأٌ وخطيرٌ في آنٍ، خاصَّةً إِذا كانَ لكُلِّ واحدٍ [زعيمهُ]! فالإِعتمادُ على الماضي لتقييمِ الحاضِر والمُستقبل من أَسبابِ الإِغترارِ، فلنحذَر.
ب/ بالرَّقابةِ الدَّائمةِ والمُستمرَّة فالحذرُ واجبٌ، وهيَ أَداةٌ تُساعِدُ الطَّرفَينِ على تحسينِ الإِختيارِ والأَداءِ والإِنجازِ في آنٍ واحدٍ، فأَنتَ بالرَّقابةِ المُستمِرَّة تُجنِّب نفسكَ الوقُوع في محاذيرِ الإِغترارِ بهِ، وهوَ عندما يشعرُ أَنَّهُ مُراقَبٌ باستمرارٍ فسيتجنَّب الإِنزلاق في متاهاتِ الفسادِ والفشلِ وبالتَّالي يحمي نفسهُ من الإِنقلابِ.
يقُولُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) في عهدهِ {ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ ، وابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ والْوَفَاءِ عَلَيْهِمْ ، فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السِّرِّ لأُمُورِهِمْ حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الأَمَانَةِ ، والرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ}.
إِذا لم تحذر فسيضحك عليكَ الفاسِدُ وأَنتَ تظنُّهُ ذاكَ المُجاهد الذي عرفتهُ أَيَّام زمان، وقد تتكرَّر معكَ الحالة الكوفيَّة عندما دخلَ عليهِمُ المُجرِمُ القاتِلُ مُلثَّماً ظنّاً منهُم أَنَّهُ الإِمامُ!.
ج/ إِستمرار حالة التَّطابق بينَ القولِ والفعلِ، فاذا تناقضت فاعلَم أَنَّهُ يضحك عليكَ وأَنَّهُ يُسخِّركَ حِماراً يمتطي ظهركَ لتحقيقِ مآربهِ الخاصَّة.
تعالُوا نقرأ معاً هذهِ الخُطبة لأَميرِ المُؤمنِينَ (ع) والتي لخَّص فيها كُلَّ هذهِ المعاني الثَّلاثة.
يقولُ (ع) {أَيُّهَا النَّاسُ غَيْرُ الْمَغْفُولِ عَنْهُمْ والتَّارِكُونَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ، مَا لِي أَرَاكُمْ عَنِ اللَّه ذَاهِبِينَ وإِلَى غَيْرِه رَاغِبِينَ! كَأَنَّكُمْ نَعَمٌ أَرَاحَ بِهَا سَائِمٌ إِلَى مَرْعًى وَبِيٍّ ومَشْرَبٍ دَوِيٍّ، وإِنَّمَا هِيَ كَالْمَعْلُوفَةِ لِلْمُدَى لَا تَعْرِفُ مَاذَا يُرَادُ بِهَا! إِذَا أُحْسِنَ إِلَيْهَا تَحْسَبُ يَوْمَهَا دَهْرَهَا وشِبَعَهَا أَمْرَهَا.
واللَّه لَوْ شِئْتُ أَنْ أُخْبِرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَخْرَجِه ومَوْلِجِه وجَمِيعِ شَأْنِهِ لَفَعَلْتُ، ولَكِنْ أَخَافُ أَنْ تَكْفُرُوا فِيَّ بِرَسُولِ اللَّه (ص).
أَلَا وإِنِّي مُفْضِيه إِلَى الْخَاصَّةِ مِمَّنْ يُؤْمَنُ ذَلِكَ مِنْه.
والَّذِي بَعَثَه بِالْحَقِّ واصْطَفَاه عَلَى الْخَلْقِ مَا أَنْطِقُ إِلَّا صَادِقاً وقَدْ عَهِدَ إِلَيَّ بِذَلِكَ كُلِّه وبِمَهْلِكِ مَنْ يَهْلِكُ ومَنْجَى مَنْ يَنْجُو ومَآلِ هَذَا الأَمْرِ.
ومَا أَبْقَى شَيْئاً يَمُرُّ عَلَى رَأْسِي إِلَّا أَفْرَغَه فِي أُذُنَيَّ وأَفْضَى بِه إِلَيَّ.
أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي واللَّه مَا أَحُثُّكُمْ عَلَى طَاعَةٍ إِلَّا وأَسْبِقُكُمْ إِلَيْهَا ولَا أَنْهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَةٍ إِلَّا وأَتَنَاهَى قَبْلَكُمْ عَنْهَا}.
وللأَسفِ الشَّديد فإِنَّ من الواقعِ المُرِّ ابتلاء أَئِمَّة الهُدى والإِصلاح بـ [أَنصارٍ] لا يُعتمَدُ عليهِم يغرُون ولا ينفعُون، ويُورِّطُون ولا يثبتُون.
يقولُ تعالى {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}.
ويستمرُّ السيناريو يتكرَّر حتَّى وصلَ إِلى عهدِ أَميرِ المُؤمنِينَ (ع) ليصِفَ [أَصحابهُ] بقولهِ {يَا أَشْبَاه الرِّجَالِ ولَا رِجَالَ! حُلُومُ الأَطْفَالِ وعُقُولُ رَبَّاتِ الْحِجَالِ لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَرَكُمْ ولَمْ أَعْرِفْكُمْ مَعْرِفَةً (واللَّه) جَرَّتْ نَدَماً وأَعْقَبَتْ سَدَماً قَاتَلَكُمُ اللَّه لَقَدْ مَلأْتُمْ قَلْبِي قَيْحاً وشَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظاً، وجَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ التَّهْمَامِ أَنْفَاساً وأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ والْخِذْلَانِ، حَتَّى لَقَدْ قَالَتْ قُرَيْشٌ إِنَّ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ ولَكِنْ لَا عِلْمَ لَه بِالْحَرْبِ.
لِلَّه أَبُوهُمْ! وهَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاساً وأَقْدَمُ فِيهَا مَقَاماً مِنِّي! لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا ومَا بَلَغْتُ الْعِشْرِينَ وهَا أَنَا ذَا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى السِّتِّينَ ولَكِنْ لَا رَأْيَ لِمَنْ لَا يُطَاعُ!}.
وهكذا حتَّى وصلَ الأَمرُ إِلى عهدِ الحُسينِ السِّبط (ع) الذي كتبَ لهُ النَّاس عشَرات الآلاف من الكُتُبِ مفادَها [إِنَّ النَّاس ينتظرُونكَ لا رأيَ لهُم غيركَ فالعجلَ العجلَ يا ابنَ رسولِ الله فقد اخضرَّ الجَناب وأَينعت الثِّمار وأَورقَت الأَشجار أَقدِم إِذا شئتَ فإِنَّما تُقدِم على جُندٍ لكَ مُجنَّدة].