نعلم علم اليقين أن الحسين هو منهج حياة وتضحية، ونكران الذات، وكربلاء هي الفاجعة؛ لكن أكثر ما يُؤلمنا اليوم هو ظلم الفقراء وأنينهم وفواجعهم التي صنعها مَن يحكمون العراق باسم الحسين، ويبتكرون الطقوس لجمع المال الحرام، ويُؤسسون لهم مستقبلًا من ذهب، وأبراجًا شاهقة من حجر الدنيا، ومتاعًا زائلًا للدنيا.
ونعرف أيضًا أن محرم له قدسيتة، ولكن ما يُحزننا أن يتحول إلى طقوس دينية لتزويد السراق بالأوكسجين، وينعش أيامهم بالمسيرة والحزن وكرم الضيافة، مستثمرين طيبة الناس، والجهل من بعضهم وعصبيتهم.
أيام معدودات وينتهي كل شيء، ويتركون الحسين المنهج والفكر والمدرسة؛ فيُنهَب متاعُه ويُكسَر سيفُه، ثم يعاودون النفاق بعد عام، ليرتكبوا الجرائم بحق البشر من كل الطوائف والأديان والقوميات باسم الحسين، وليتفننوا بالنهب وسرقة أموال شعب الحسين، وكأنهم يريدون أن يقولوا لنا: إن الحسين لا يُريدكم أن تُحيوا نهجَه، أو لا تسلكوا طريقَه، وألا تعيشوا مبدأَه!
والتجارب تقول لنا: عشرون عامًا، ونحن نرى العجب العُجاب؛ قتلوا منهج الحسين (الرمز والثائر)، وحوَّلوا بيوت العراقيين كلها إلى واقعة (الطف)، وقتلوا الكرامة في النفوس (هيهات منا الذلة)، وتفنَّنوا بسرقة خزائن الشعب الفقير، وأدخلوه في نفق لا نرى في نهايته أملًا.
بلد “كاروك هزاز” يلعب به (شعيط ومعيط وجرار الخيط)، و”هتلية” شوارع خلفية جوعى مال وسلطة، ومافيات سلاح ومخدرات، وحرامية دين يكرهون جمال الحياة. عراق يُحركه طقاطيق وشخابيط السيد والشيخ والرعيان!
مازال شعبي يصرخ في باب الحسين: هيئات من الذلة، وهو مع الأسف غارق في بحر أحزان الذلة وعبودية السلطة، وغيبيات الطقوس. صارت شهور العراق كلها عزاءً وحزنًا، وصار الحسين شاهدًا على مأساة العراقي الذي يتجرع مرارة مظلوميته كل يوم، ويشرب من كأس شهادته. فالحسين قضية ومنهج حياة وعطاء ومقاومة، هو سيد الشهداء الذي علَّم البشر شجاعة الموقف والإيثار؛ من أجل انتصار الحق، وتحقيق العدالة.
الكل يبكي ليل نهار، ويصنع أحزانه، ويؤسس له طقوسًا يومية من الشكوى والآهات. والحاجة بالفعل أم الاختراعات لكن التجهيل أبو الكوارث!
كيف يمكن لشعب مُغيَّب بأفيون الطائفية، وغارق في أحزان الطقوس، أن يكون يقِظًا وجريئًا وشجاعًا، وأن يقتحم أسوارَ السلطة والأحزاب بزيارة مليونية عاقلة وغاضبة، بدلاً من زيارات الجهاد لإمام كان ضد الظلم، وهو الحسين القائل (موتٌ في عزٍّ، خيرٌ من حياةٍ في ذلٍّ) و(لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برما). ولو كان حيًّا لقادنا بنفسه في الصفوف الأمامية لإبادة سلطة الظالمين.
ليس معقولاً أن يأتي محرم هذا العام، وهو يحمل نسائم أبي الشهداء، وننشغل نحن بالطقوس الحزينة دون أن يكون بيننا الحسين مقاتلًا من أجل التغيير والإصلاح؛ لنكون مثالاً لمواجهة ظلم الأحزاب الدينية وسلطة اللصوص. فالعبرة من النهضة الحسينية هي استلهام الدروس، وإنقاذ العباد من الجهالة والتيه، وحيرة الضلالة، وبناء وعي مقاومة الظلم، والنزوع إلى التغيير، وبرمجة العقول باتجاه العلم، واستنباط أفعاله الراقية.
تذكرت وأنا أحمل راية أبي الأحرار قصة الشباب التشريني الذين صنعوا محرم التغيير، وجسَّدوا فكر الحسين ضد الظلم والاستبداد، وما فعلوه من مآثر بطولية، وتلبيتهم لمنهج الحسين في التغيير، وللوطن الجريح. فقد كانت انتفاضتهم حسينية المعنى والمنهج، وبركانًا من الضمير الحي، والذكاء الاجتماعي الفطري، وظلم البيئة وجفافها، ووجع المظالم، والتراكم الكمي للسخط والرفض للواقع المُزرى. فنحن في محرم بحاجة إلى تجديد صوت الشباب بحكمة الحسين وروحه الثائرة. وحرارة صيف العراق اللاهبة التي “تحرق المسمار بالباب” قادرة على أن تجعل صوت الشباب هو الأقوى والأسرع.
في كل محرم أقول: أبا عبد الله، ونحن نحتفل باستشهادك (كرمز للمظلومين)، نشكو إليك اليوم ما آلت إليه أحوال البلاد والعباد، وفقر حال العراق ودماره، وسرقة أمواله من الذين يدَّعون زورًا وبهتانًا أنهم أنصارك ومريدوك؛ ذلك لأنهم شوَّهوا ألق الشهادة وجمالها، وعنفوان المجد والفداء؛ بل يريدون بأفعالهم أن يصنعوا لنا عاشوراء جديدة ليطفئوا نور العراق.
كما نشكو إليك مَن أفقرونا واغتنَوْا من فقرنا، ومَن ذهبت إليهم أموالنا. ونشكو إليك أيامَنا العصيَّة ومصيرنا الغامض. ونشكو إليك ظُلم القريب والبعيد، وفساد الأحزاب الدينية الحسينية التي ظلمت أهلها، وانشغلت بالسلطة والمال والجاه، وسرقت منّا أموالنا وزكاتنا وأحلامنا، وباعوا لنا الصبر بأبخس الأثمان دون خوفٍ من قيمِك، وانتظرنا الثمار؛ فلم نحصد إلا الذل، وأنت القائل لله: (منك أطلُبُ الوصول إليك، وبك استدلُّ عليك؛ فاهدني بنورك إليك، وأقمني بصِدْق العبودّية بين يديك).
أبا عبد الله … أنت الحيُّ بفكرك ومنهجك، ونحن الأمواتُ في قبر الحياة!