تبدو بغداد لا تقدر إلا على أهلها، فمن كان كُردياً يعمل لصالح أحد الأحزاب المتنفذة في إقليم الشمال يستطيع اللعب كيفما يشاء في سوق الدولار، إلا أن هذا صار محرماً على سكان العاصمة والمحافظات الوسطى والجنوبية، وهو ما لم يعد مفهوماً لماذا تنازلت بغداد عن سيادتها المالية ؟!، حتى وهي تعلم أن هذا يتسبب بتداعيات اقتصادية كبرى في البلاد .
وشنت بغداد حملة واسعة على شركات الصرافة ومكاتب الحوالات في العاصمة والمحافظات الوسطى والجنوبية تحت عنوان مكافحة المضاربين في سوق الصرف، وهو إجراء بوليسي لن يقود الى شيء بحسب الخبراء، باعتبار أن المعالجات الأمنية لن تؤدي الى تعديل ميزان الصرف الذي يتطلب إجراءات اقتصادية وقرارات فنية وإدارية من اختصاص البنك المركزي، باعتباره المسؤول عن السياسة النقدية.
وبمجرد تحميل شركات الصرافة مسؤولية ارتفاع سعر صرف الدولار، يُعد بحد ذاته تسويقاً للوهم الذي لا فائدة من ورائه، والدليل أن الارتفاع في سعر الدولار مستمر على الرغم من عمليات الاعتقال التي طالت العشرات من أصحاب مكاتب الصرافة، والتي تمت من دون حتى سند قانوني.
ووفقاً للدستور لا يجوز اعتقال الأشخاص من دون جريمة مثبّتة بمادة قانونية لأكثر من 24 ساعة، ولا يجوز تمديد الحجز أكثر من مرة قبل أن يُعرض على قاضي التحقيق.
ويبيع فرع البنك المركزي في أربيل دولارات يومياً بحسب منافذ البيع الرسمية، وهو ما يوفر أرباحاً تُقدر بـ22 نقطة في حال بيع الدولارات في سوق العملة الموازية، وهي سوق تابعة لمتنفذين حزبيين لا تخضع بالضرورة لمتابعات أمنية ولا رقابة مركزية.
وسبق أن أصدر البنك المركزي لائحة عقوبات تم بموجبها تقييد 14 مصرفاً تعود ملكيتهم لجماعات شيعية، بحجة مخالفة هذه المصارف لقواعد التعامل بالدولار من ناحية الشروط الامريكية، وما يتعلق بعمليات تهريب الأموال التي جرى توجيهها للمصارف من دون أدلة وإثباتات.
وما هو غير مفهوم لماذا يتم استثناء المصارف الكردية التي لديها شراكات مالية مع مصارف أردنية وإماراتية من أي عقوبات أو تقييد، فيما يتعلق بحركة الدولار حصرياً؟، مع العلم توجد مؤشرات عديدة لدى إدارة البنك المركزي والمشتغلين في سوق الصرف عن حوالات مالية بالدولار واسعة النطاق تُدار من خلال رابطة المصارف التابعة لهم !.
ومن هنا تبدو (المعالجة بالوهم) من خلال استخدام الأساليب البوليسية، في محافظات السلطة المركزية فقط، لن تؤدي إلى أي إصلاحات تذكر، لكون شركات الصرافة ليست هي التي وراء أزمة ارتفاع سعر الدولار، وإنما غياب الإرادة الاقتصادية لدى الحكومة، وضعف البنك المركزي أمام المصالح الاجنبية.
وكان قد سبق للجنة المالية في البرلمان استدعاء محافظ البنك المركزي (علي العلاق) بهدف معرفة حقيقة ما يجري في سوق الصرف، إلا أن الأخير تملّص من الأسئلة، بحسب بعض النواب، ثم وعد لاحقاً بتقديم توضيحات في جلسة أخرى، إلا أن اللجنة المالية ومجلس النواب يبدوان في حالة سُبات حيال ما يجري.
وأخطر ما في الموضوع، أن هذا (الوهم) قد سقطت فيه الحكومة المركزية نفسها، حين صارت تخسر سيادتها المالية لصالح الإقليم، فيما صار الإقليم يحدد بنفسه سعر صرف الدولار بشكل يومي لعموم الدولة العراقية، وعلى البنك المركزي في بغداد الاستسلام لما يريده الإقليم، مع كون الإقليم يُدار منذ عدة أشهر من قبل حكومة فاقدة الشرعية، باستثناء صلاحيات (تصريف الأمور يومية)، وفي ظل برلمان محلي معطّل، وبرلمان مركزي غائب عن الوعي.