من يقود من؟

بعد أستعراض أول وجهين للتخادم بين الميمية والشركات والحكومات الداعمة لها بقي أن نستعرض الوجه الثالث لذلك التخادموهو في رأيي يفوق بكثير موضوع التخادم من أجل زيادة ارباح الشركات أو حصولها على الموارد البشرية اللازمة لتطورها،وهو يتعلق بشكل المجتمع والثقافة التي يمكن ان تخدم توجه شركات التقنية الكبرى. لكن قبل ذلك لا بد من الأجابة على التساؤل الذي طرحته في نهاية الحلقة الماضية ومفاده: هل أن الشركات الداعمة للميمية هي التي تقود وتطور الأتجاهات المثلية أو الشاذة أم أنها ركبت الموجة لل أستفادة مما تدره من أرباح وعوائد مادية وغير مادية؟ يجيب ريتشارد سوكاريدز والذي عمل في أدارة كلنتون والتي شهدت بدايات صعود الميمية، ان الجواب هو مزيج من الأثنين. بمعنى هناك علاقة تخادم متبادلة وصفقة ضمنية بين الاثنين تحقق فوائد كبيرة لكل من منظمات الشذوذ والشركات الداعمة لها والراكبة لموجتها.

أعود الآن لأهم سبب في رأيي وراء هذا السير الحثيث والدعم الكبير للمثلية من قبل شركات التقنية الكبرى. هنا يجب أعادة توكيد ما سبق التنويه له في أكثر من مكان في هذه السلسلة من أن الميمية بمختلف أشكالها ماهي الا أفراز لثقافة أجتماعية معينة. بمعنى أن هذه الظاهرة لا يمكن لها أن تنمو مالم تتوفر لها بيئة أن لم تكن حاضنة،فعلى الأقل متقبلة لتلك الظاهرة. هذه الثقافة يجب أن تمحو كل المعايير الأجتماعية والتقاليد الرافضة لمثل هذه الممارسات السلوكية الفردية. أن الثقافة الأجتماعية هي التي تحدد السلوك المقبول وتكافىء عليه كما أنها هي التي تحدد السلوك المرفوض وتعاقب عليه.وأن معيار القبول والرفض لتلك القيم والسلوكيات يعتمد على مدى خدمتها للمجتمع. وكما أوضحت في كتاي (ثقافة التصلب في العراق) فأن مجتمعات العالم تتصلب في معاييرها أو تكون مرنة فيها طبقاَ للتحديات البيئية التي تواجههازفكلما كانت البيئة مهددة للمجتمع (كالأمراض والكوارث والحروب) كلما طورت المجتمعات ثقافة صلبة أو متشددة،تحد من حرية الأفراد لصالح المجموع، لكي تتمكن من مجابهة تلك التهديدات. وكلما كانت البيئة أقل تهديداَ وأشد أرتياحاَ كلما طور المجتمع سلوكيات ومعايير أجتماعية أكثر مرونة وأقل تشدداَ(راجع الكتاب أعلاه).

أن الملاحظ الآن أن المجتمعات الأكثر تصلباَ (كمجتمعنا والمجتمعات الآسيوية ،وبعض المجموعات الثقافية في المجتمعات الغربية)هي الأشد مقاومة لهذه الظاهرة الميمية للأنها تعودت أن تعاقب بشدة كل من يخرق المعايير الأجتماعية الموضوعة. وهي ترى في الظاهرة الميمية أنتهاكاَ واضحاَ لتلك المعايير الأجتماعية. بعكس المجتمعات التي أسميتها في الكتاب بالرخوة أو المرنة والتي طورت ثقافات أكثر تساهلاَ تجاه من يخرق معاييرها الأجتماعية.

بالتالي فهي لم تعد ترى في هذه الظاهرة تهديد وجودي لثقافتها.لذا فأن الخطوة الأولى والأهم لتقبل هؤلاء المجاميع الميمية هي تغيير الثقافة الأجتماعية بما يجعلها أكثر تقبلاَ للظاهرة. ولكي يحصل ذلك يجب أقناع تلك المجتمعات بعدموجود تهديد وجودي لها من الظاهرة الميمية. ولكي يتم ذلك فيجب تقديم البديل المقنع لهذا الأدعاء. هنا تبرز مرة أخرى فرضية التخادم بين الميميين وشركات التقنية الكبرى ولكن بشكل جديد يرتبط بالتطورات الرقمية الحاصلة في بيئة المجتمعات.

ذكرت قبل حلقتين أن كل تكنولوجيا تجلب معها ما هو مفيد للأنسان ومجتمعه،فضلاَ عن جلبها لما هو مضر لمجموعات أخرى.ومثلما أدت وتؤدي التكنولوجيا الى أحياء مدن وموت أخرى،وأحياء مهن وموت أخرى،وأحياء شركات ومنظمات وموت أخرى فأنها قد تؤدي الى تغيير ثقافات وأندثار أخرى. ومثلما أدى التطور الصناعي وما رافقه من تطورات أقتصادية وأجتماعية الى تقليص دور الأسرة وتهديد مؤسسة الزواج التي ظلت لقرون طويلة هي المؤسسة الاجتماعية الاهم في كل المجتمعات حتى باتت تلك المؤسسة تحتضر في مجتمعات معينة،فعلينا أن لا نستغرب أن يتم تهديد أنساق ثقافية أخرى في المجتمع.هذا لا يعني الأستسلام لهذا القدر المحتوم،ولا يعني تقبل الموضوع كمسلمة واقعية،لكنه يعني كما قلت سابقاَ أيجاد بدائل واقعية لمواجهة هذا التغيير الثقافي تتفق مع الأرادة الجماعية للمجتمع وتحافظ على معاييره الأجتماعية التي يعتقد أنها أساسية لوجوده. ولكي يحصل ذلك يجب ان نفهم التغيير كما هو وليس كما نريد أن نفسره نحن. كيف ذلك؟ هذا ما سأستمر في أيضاحه في قادم الحلقات.

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *