لا أرغب بالحديث في أعمدتي الصحفية عما هو يومي ، لحرصي على أن يكون لمقالي عمرا مديدا ، يتناغم مع هموم الحاضر ويلبي حاجة قراء المستقبل ، بمعنى أريد لأفكاري خلودا ، ولا خلود الا بتجاوز ما هو يومي بتفاصيله المملة ، لأنه متغير بالأصل ، قد يدوم لمدة وجيزة ، لكنه في النهاية يتلاشى ، وكنت ألمحت الى ذلك في كتابي ( صراخ بلا صدى : تجربتي في كتابة العمود الصحفي ) الصادر عن دار النهضة العربية في بيروت العام 2019 .
لكن من اشتراطات العمود الصحفي أن يتناول مشاغل الناس ، ويعبر عن هموهم ، ويعكس تطلعاتهم ، وينقل معاناتهم الى من هو معني بمعالجتها ، ويبدي رأيا في كل ذلك ، فالمقال عموما بضمنه العمودي يجب أن يتضمن رأيا ، والا فانه يفقد الكثير من قيمته ، فالناس تنتظر منك خلاصة القول مدعومة بما ترى ، فالبعض من الأعمدة ينطوي على كم من المعلومات الشيقة والمثيرة ، ومعالجة بأسلوب جذاب جدا ، وتجد لها قراء كُثر ، لكنها في النهاية لا جدوى منها سوى حشر المزيد من المعلومات في أذهان الناس ، فكثرة المعلومات لا تشكل عمودا اذا لم تنته الى رأي ، كما ان كثرة الكلمات في القواميس لا تشكل لغة ، فاللغة هي تلك العلاقة بين الكلمات . فلن يفضي حفظ الأطفال للمزيد من الكلمات الى تعلم اللغة . فالذي يعلم الأطفال التفكير الذي قد يسبق فيه بعض الأطفال أعمارهم هو ادراكهم للعلاقة بين المفردات التي تكّون قاموسهم اللغوي ، لذلك ندعو الآباء الى السماح لأطفالهم بمخالطة أقرانهم لتعلم اللغة وليس لحفظ الكلمات . فغالبا ما ينتهي عزلهم عن جماعات اللعب الى نتائج سلبية وبعضها كارثي .
وما هو يومي كثير ، وأحيانا تفر بجلدك ممن يستمتع بالإبحار فيه ، ويلح في روايته لك ، مع انك تراه بعينك ، ولست بحاجة الى من ينقله لك ، اما النبيل والسامي من الأفكار ، فذلك نتاج العقول المبدعة ، أي المنشغلة بالمفاهيم والنظريات ، وليست تلك التي تظن نفسها مبدعة لكدس المعلومات المكتظ في دماغها ، ولا تلك التي يأسرها القيل والقال بين الناس او ما يُطلق عليها بالعقول الخاملة .
ولأن الأمر كذلك ، كثيرا ما أتذمر عندما أكون مجبرا على الكتابة عما هو يومي كشح الماء وضعف الكهرباء وزحمة الطريق الذي يهدر من أوقاتنا بقدر الذي نقضيه في العمل ، وتراجع الذوق العام للناس التي صار بعضها لا يقول شكرا لمن يسدي لها فضلا ، او اعتيادهم على الاحتيال مثلما يفعل العاملون في محطات وقود السيارات ، او يبيعك أصحاب المحال السلعة بأضعاف سعرها مستغلين عدم معرفتك ، او اضطرارك للشراء كما يفعل أصحاب الصيدليات ، او مرور اسبوعين على عطل في اشارة ضوئية مرورية لم يصلّح حتى الآن ، او الأطفال الذين يقفون لك في التقاطعات يستجدون حتى صاروا يخرجونك عن طورك ، القائمة تطول ، لكن ما لفتني مما هو يومي خبر قرأته في واحدة من صحفنا يتعلق بالفنان الكبير محمد حسين عبد الرحيم ، ولفتني لأمرين : أولهما تكفّل وزارة الصحة بعلاجه خارج العراق بتوجيه من السيد رئيس الوزراء محمد شياع السوداني الذي تحسب له هذه الالتفاتة الكريمة لرعاية الفنانين ودعم المجال الفني ، وعبد الرحيم يستحق ذلك وأكثر منه ، لما قدمه من خدمة جليلة لبلده واخوانه ، وأتمنى أن يحظى المبدعون أمثاله بمثل هذه الرعاية الحكومية ، لكن ما يحز بالنفس ان السياسيين المكلفين بالارتقاء بالبلاد يعالجون خارج العراق عندما يمرضون ، وكذلك الأثرياء بحكم قدراتهم المالية مع ان أمراض بعضهم ليست مستعصية ، ويبقى الفقراء وحدهم نهبا للموت بأمراض يتعذر علاجها بمستشفياتنا ، وليست لهم وفرة مالية تتيح لهم العلاج خارج البلاد، متى تكون مستشفياتنا مقصد المرضى من دول الجوار وغيرهم؟، قد يشغل هذا الهدف بال من بيدهم الأمر اذا مُنعوا من العلاج في الخارج طالما هم في الوظيفة العامة .