أما بيتنا العتيق بمدينة الثورة ببغداد والذي عمره الآن أزيد من ستين سنة ، فلقد عشت فيه نحو نصف عمري البغدادي ، وهو بيت لا يشبه نظراءه في الزقاق وما حوله وما بعده .
على سطحه تلوح مدخنة ترفع رأسها عالياً ومفتتحها بمطبخ الأم الراسخة هناك ، والحمّام كان يقوم على صبة اسمنت مسلح تحته موقد خشب وببطنه خزان ماء نحاسي كبير يزودك بماء العوافي الدافىء اللذيذ .
ألباب الذي يفصل الحوش عن غرفة المضيف كان باباً مجنوناً وهو من الصنف السبرنكي الذي يظهر بحانات أفلام الكاوبوي ، حيث يبقى يلوح لك بعد الدخول ذاهباً وعائداً حتى يستقر على درجة الغلق فصار لعبة عزيزة ما زالت لذتها قائمة بسكراب الذاكرة .
جبهة الدار كانت تشبه قوساً عملاقاً منبطحاً على ظهره الكثير ، فيبدو للناظر إليه مثل مشحوف ميت بأرض خلاء .
مستطيل سماوي أزرق يتجسر بين أخير الدار وباب الصالة ، ينزل علينا زخيخ المطر وألسنة الشمس وخفقات أجنحة الطير العابرة من هناك .
في الحوش هذا ثمة مغسلة بيضاء فرفوري لغسل اليدين والوجه وتمشيط الشعر بممشطة معمولة من البلاستك أو الخشب قبل التوكل عليه برحلة الذهاب إلى المدرسة .
عند قدم الدرج النازل من بيتونة السطح كان لدينا حوض يرفع خشمه فوق الأرض بمقدار ست طابوقات من نوع جمهوري مثقب ، تعلوه حنفية ماء صفراء تتحول إلى ناقوط بمقدورك سماع صوت ارتطام قطراته بسطح البركة الصغيرة حتى لو كنت ممداً على فراش العوافي تدندن وتعد نجوم الليل ودرب التبانة والدب الأصغر والأكبر والنجمة العرجاء كما تقول الحكاية .
غطاء حديدي مربع لبالوعة الفضلات الخفيفة والثقيلة يحاول التخفي كأي سيد مهذب تحت شباك المطبخ ، وهذه الحفرة العملاقة لا ترى إلا في حال الامتلاء ومجيء سيارة نقل المصائب بوساطة خرطوم طويل يصل بالسيارة الدبة التي تطلق صوتاً قوياً متصلاً أثناء الشفط ، فيبدأ الأطفال فصل الفرجة والضحك وشم النسيم الذي لن يكون عليلاً هذه المرة .
عشت هناك مفتتح العمر حتى أول الشباب ، وكانت سنوات تشكل وبناء الوعي المكتسب حيث الجريدة والمجلة والكتاب والتلفزيون الخشبي أبو اللمبات وشرائط فريد شوقي وهند رستم ومحمود المليجي وتوفيق الدقن ، وتالياً المصارع الضخم عدنان القيسي ونذور الأمهات