ما زلت أتذكر يومين مميزين لي في مدينة الخالص التي لم أرها بعد الاحتلال الأمريكي لبلادنا حتى الخميس الماضي ، أولها حدث في فتوتي يوم أديت امتحان البكلوريا في الصف الثالث المتوسط ، وكانت الامتحانات الوزارية تجري في مركز القضاء لجميع طلبة النواحي والقرى ، يومها كنت خائفا من التأخر عن الوقت المحدد للامتحان ، اذ يتعين علّي قطع مسافة ثلاث كيلومترات ونصف الكيلو مشيا على الأقدام ، وبعدها استقل مركبتين ، مرعوبا أمشي وكل جسمي يرتجف ، وكأني في شهر شباط ، فامتحانات زمان غير امتحانات هذه الأيام .

الخالص حينها بالنسبة لي عالم جديد لم أعتده من قبل ، بيوت مشيدة من الطابوق لا تقارن ببيوتنا الطينية المتهالكة التي كثيرا ما تخترق الأمطار سطوحها بالرغم من تحوطاتنا صيف كل عام ، لكنها لا تجدي نفعا في الغالب ، ووسط أجواء ممطرة نتسلق جدرانها لمعالجة الثقوب التي يتسلل منها المطر ، هكذا هي هشاشة حجراتنا المسقفة بجذوع النخيل وحصائر القصب وكميات من الحلفة التي اتخذت منها الأفاعي ملاذا آمنا .

شوارع المدينة معبدة ، بينما الطريق الموصل لقريتنا ترابي ، ولا تسلكه الا سيارتان تذهبان الى ( الولاية ) صباحا وتعودان عصرا ، وعليك أن ترتب وقتك على مواعيدهما ، أعمدة الكهرباء منتشرة على طول الشوارع وأسلاكها ممتدة الى المحال والبيوت ، كم كنا نتمنى أن تنار قريتنا التي ما أن تغيب الشمس حتى تغط في ظلام دامس ، مازالت رائحة النفط ودخان اللمبات والفوانيس يملأ انوفنا ، وبقع سوداء على وجوهنا ، ما أن نبصرها في المرآة صباحا حتى يضحك بعضنا من بعض ، الخالص بالنسبة لنا كانت حقا مدينة .

وثاني الأيام في شبابي ، فما ان وصلت الى مدخلها حتى لفتني تمثال العلامة مصطفى جواد وقد رفعته أسلاك سيارة البلدية من عنقه ، واذا به يتطوح في الهواء ، فكتبت مقالا بعنوان ( اعدام دون مفت ) وحدث أن نشر في جريدة الجمهورية مطلع تسعينيات القرن الماضي ، ووصف نشره في وقتها بالمغامرة ، وقد وضع أحد الأصدقاء يده على قلبه من أن أكون ضيفا عزيزا على احدى دوائر الأمن بحسب قوله ، لكن الحادثة مرت دون عواقب فنمت رغدا .

قبل أيام زرت الخالص ، فوجدتها لا ترقى الى مستوى قرية ، ولا ينطبق عليها وصف مدينة اطلاقا ، فالتمدن اشتق من كلمة المدينة ، ولا تمدن للبشر بدون مدينة ، بمعنى انها تفرض على الانسان ثقافة معينة من حيث لغة التخاطب والملبس والسلوك وغيرها ، مثلما تشترط القرية سلوكا معينا بحكم عاداتها وتقاليدها وأعرافها ، ولكي تكتسب المدينة معناها الدقيق لابد أن تتمتع بشوارع واسعة وعمران بارز ومؤسسات أنيقة وأحياء فارهة ومحال منظمة .

صدمتني زيارتي الاضطرارية لها ، انها الأكثر سوءا بين جميع مدننا ، وكأن يدا لم تلمسها ، ولا زارها مسؤول يوما ، شعرت وكأني في مقبرة ، اغلقت جميع شوارعها ، ولا مدخل لسوقها الا من الباب الأصفر الذي لا تعرف له طريقا ، عليك ان تسأل مرارا لتتبين طريقه ، وما أن تراه حتى تصدم ثانية ، فالباب الأصفر الذي ذهب بخيالي بعيدا ، لا يصلح أن يكون بابا لـ ……. ، ولا يليق شكله ووجوده بكرم أهاليها الذين ضحوا بالمئات من شبابهم دفاعا عن الوطن ، ولا بمدينة اتخذت من نفسها ساترا لحماية بغداد من هجمات الظلاميين .

مدينة لا تُطاق ، لكن الاضطرار أجبرني ، فلابد ان أصل الى عيادة الطبيب المنزوية في زقاق ضيق محاطة بعشرات البسطيات العشوائية المزدحمة بالمتبضعين ، يُراد لك تركيز عال لمراوغة صفوفها ، لم أكن قادرا على حمل مريضي المصاب بكسر في ساقه ، فهب الشباب بغيرة العراقيين المعهودة لمساعدتي .

ملأني واقعها المر حزنا واحباطا ويأسا ، لا تستحق الخالص أن تكون هكذا ، لزمت الصمت برغم انفعالي الذي بلغ درجة خفت فيها من ارتكاب خطأ ، وأوصف بالشخص غير المتمدن .

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *