مازلتُ‭ ‬أتذكَّرُ‭ ‬حكاياتٍ‭ ‬مثيرةٍ‭ ‬وشائقةٍ،‭ ‬كانت‭ ‬أمي‭ ‬رحمها‭ ‬الله‭ ‬تسمعنا‭ ‬إياها‭ ‬شفاهاً‭ ‬بطريقةٍ‭ ‬باهرةٍ‭ ‬حين‭ ‬يجنُّ‭ ‬الليل،‭ ‬وبرغم‭ ‬تكرارها‭ ‬لتلك‭ ‬الحكايات‭ ‬الشعبية‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ليلة‭ ‬شتوية‭ ‬ونحن‭ ‬نجتمع‭ ‬حول‭ “‬منقلة‭ ‬الحطب‭” ‬في‭ ‬غرفة‭ ‬دافئة‭ ‬حتى‭ ‬يداهمنا‭ ‬النعاس‭ ‬فنتسلَّلُ‭ ‬إلى‭ ‬أفرشتنا‭ ‬الواحد‭ ‬تلو‭ ‬الآخر‭ ‬لنغطَّ‭ ‬بنوم‭ ‬عميق،‭ ‬أو‭ ‬حين‭ ‬تقصَّ‭ ‬تلك‭ ‬الحكايات‭ ‬في‭ ‬ليالي‭ ‬الصيف‭ ‬فوق‭ ‬السطح‭ ‬وضوء‭ ‬القمر‭ ‬يداعبُ‭ ‬برقَّةٍ‭ ‬أجفاننا‭ ‬ثُم‭ ‬َّ‭ ‬نغفو‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ْندري،‭ ‬لكننا‭ ‬لم‭ ‬نضجر‭ ‬ونشعر‭ ‬بالسأم‭ ‬والملل‭ ‬من‭ ‬سماع‭ ‬قصة‭ “‬الملك‭ ‬محمد‭” ‬وصراعه‭ ‬مع‭ ‬معشر‭ ‬الجن‭ ‬وحكاية‭ ‬التاجر‭ ‬ومخاطر‭ ‬البحر‭ ‬لسفينتهِ‭ ‬وقتاله‭ ‬الشرس‭ ‬للقراصنة‭ ‬حين‭ ‬يتغلَّب‭ ‬على‭ ‬شرورهم‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف،‭ ‬أو‭ ‬قصة‭ ‬الصياد‭ ‬الفقير‭ ‬الذي‭ ‬يعثر‭ ‬على‭ ‬لؤلؤة‭ ‬في‭ ‬بطن‭ ‬سمكة‭ ‬وحيدة‭ ‬يصطادها‭ ‬من‭ ‬النهر،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬أمي‭ ‬رحمها‭ ‬الله‭ ‬تسرد‭ ‬لنا‭ ‬حكايات‭ ‬طريفة‭ ‬تجعلنا‭ ‬نغرق‭ ‬بالضحك‭ ‬منها‭ ‬حكاية‭ ‬قوم‭ ‬طرطبيس‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬الجمعة‭ ‬من‭ ‬الخميس‭ ‬وحكاية‭ ‬الزنجي‭ ‬الأبله‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬إشاراتٍ‭ ‬جنسيةٍ‭ ‬بريئةٍ،‭ ‬ولعلَّ‭ ‬هذه‭ ‬الحكايات‭ ‬توغَّلتْ‭ ‬في‭ ‬وجداني‭ ‬وجنوني‭ ‬وتفاعلت‭ ‬معها‭ ‬برغم‭ ‬عمري‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يتجاوز‭ ‬السبع‭ ‬سنوات،‭ ‬فحاولت‭ ‬تقليد‭ ‬أمي‭ ‬رحمها‭ ‬الله‭ ‬ولكن‭ ‬بطريقةٍ‭ ‬أخرى،‭ ‬إذْ‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬صديق‭ ‬يكبرني‭ ‬بأربع‭ ‬سنوات‭ ‬واسمه‭ ‬كاظم‭ ‬عبود‭ ‬عرب،‭ ‬بالواقع‭ ‬كان‭ ‬صديقاً‭ ‬لأخي‭ ‬الأكبر‭ ‬علي‭ ‬النوّاب،‭ ‬لكنَّ‭ ‬لعبة‭ ‬سردٍ‭ ‬صبياني‭ ‬ابتكرتها‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬جمعتنا؛‭ ‬ولا‭ ‬أدري‭ ‬حتى‭ ‬اللحظة‭ ‬كيف‭ ‬راودت‭ ‬خاطري‭ ‬تلك‭ ‬الفكرة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬من‭ ‬غرابة؟‭ ‬وحرصنا‭ ‬على‭ ‬تنفيذها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬بعد‭ ‬خروجنا‭ ‬من‭ ‬المدرسة‭ ‬وقبل‭ ‬جنوح‭ ‬شمس‭ ‬مدينة‭ ‬المناذرة‭ ‬إلى‭ ‬الغروب؛‭ ‬كنتُ‭ ‬أجيء‭ ‬برغيفين‭ ‬خلسةً‭ ‬عن‭ ‬عائلتي،‭ ‬واحد‭ ‬لي‭ ‬والآخر‭ ‬لصديقي‭ ‬عرب‭ ‬ونلجأ‭ ‬إلى‭ ‬سدَّةٍ‭ ‬ترابيةٍ‭ ‬تدعى‭ “‬الردَّادْ‭” ‬كمكانٍ‭ ‬لجلوسنا؛‭ ‬حيثُ‭ ‬نبدأ‭ ‬بتخيّل‭ ‬حكايات‭ ‬لا‭ ‬وجود‭ ‬لها‭ ‬يقصُّها‭ ‬أحدنا‭ ‬على‭ ‬الآخر،‭ ‬كان‭ ‬زمن‭ ‬القصة‭ ‬ينتهي‭ ‬مع‭ ‬التهام‭ ‬آخر‭ ‬قطعة‭ ‬من‭ ‬رغيف‭ ‬الخبز،‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬نبتكر‭ ‬قصة‭ ‬نضع‭ ‬لها‭ ‬شخصيات‭ ‬من‭ ‬أهالي‭ ‬المدينة‭ ‬وبخيال‭ ‬صبياني‭ ‬جامح‭ ‬نؤلف‭ ‬أحداثاً‭ ‬تصادفهم،‭ ‬نذهب‭ ‬بجنون‭ ‬سردنا‭ ‬مع‭ ‬تلك‭ ‬الشخصيات‭ ‬إلى‭ ‬مدنٍ‭ ‬لم‭ ‬نرها‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬وكثيراً‭ ‬ما‭ ‬كنّا‭ ‬نختار‭ ‬بغداد‭ ‬مكاناً‭ ‬للأحداث‭ ‬برغم‭ ‬أننَّا‭ ‬لم‭ ‬نزر‭ ‬العاصمة‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬لكننا‭ ‬نتحدَّث‭ ‬عن‭ ‬شوارعها‭ ‬وفنادقها‭ ‬وصالات‭ ‬السينما‭ ‬فيها‭ ‬وحدائقها‭ ‬كأمكنةٍ‭ ‬مفترضة‭ ‬ٍ‭ ‬لحركة‭ ‬الشخصيات‭ ‬وفق‭ ‬خيال‭ ‬محض‭. ‬أذكر‭ ‬أن‭ ‬َّقصةً‭ ‬من‭ ‬وحي‭ ‬خيالي‭ ‬طبعاً؛‭ ‬سردتها‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬لصديقي‭ ‬عرب‭ ‬أعجبته‭ ‬كثيراً،‭ ‬حين‭ ‬اخترتُ‭ ‬فتاة‭ ‬مراهقة‭ ‬من‭ ‬مدينة‭ ‬المناذرة‭ ‬كانت‭ ‬تتصف‭ ‬بجمالٍ‭ ‬آسرٍ‭ ‬وتكبرني‭ ‬بعشر‭ ‬سنوات‭ ‬كبطلةٍ‭ ‬لقصتي‭ ‬وجعلت‭ ‬من‭ ‬نفسي‭ ‬عشيقاً‭ ‬لها؛‭ ‬حيث‭ ‬أخذتها‭ ‬برفقتي‭ ‬برحلة‭ ‬استجمام‭ ‬لمدينة‭ ‬خيالية‭ ‬بواسطة‭ ‬مركبة‭ ‬تشبه‭ ‬بساط‭ ‬الريح؛‭ ‬كنتُ‭ ‬أقودها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬خيوط‭ ‬حرير‭ ‬حمراء،‭ ‬لكن‭ ‬شرطي‭ ‬مرور‭ ‬يرتدي‭ ‬بذلةً‭ ‬من‭ ‬عاقول‭ ‬أصفر‭ ‬يوقف‭ ‬مركبتي‭ ‬وسط‭ ‬السماء‭ ‬ويطلب‭ ‬إجازة‭ ‬السياقة‭ ‬مني‭! ‬فأدخلُ‭ ‬معه‭ ‬بمشاجرةٍ‭ ‬عنيفةٍ‭ ‬حرصت‭ ‬خلالها‭ ‬على‭ ‬استعراض‭ ‬شجاعتي‭ ‬أمام‭ ‬عاشقتي‭ ‬المراهقة،‭ ‬وبعد‭ ‬صراع‭ ‬فضائي‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬الإثارة،‭ ‬أقذف‭ ‬بجسده‭ ‬إلى‭ ‬غاباتِ‭ ‬نخل‭ ‬بعيدة‭ ‬ٍ‭ ‬في‭ ‬الأرض‭ ‬ونرى‭ ‬معا‭ ‬تهشّم‭ ‬جسده‭ ‬وتناثر‭ ‬أشواك‭ ‬بدلته‭ ‬الشوكية،‭ ‬وأواصل‭ ‬رحلتي‭ ‬بعناد‭ ‬لتلك‭ ‬المدينة،‭ ‬حين‭ ‬نصلها‭ ‬نكتشف‭ ‬أنَّ‭ ‬منازلها‭ ‬مشيَّدة‭ ‬من‭ ‬ضباب‭ ‬ودخان‭ ‬وأسواقها‭ ‬ملأى‭ ‬بأناس‭ ‬مصنوعين‭ ‬من‭ ‬المطر،‭ ‬وطعامها‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬إلاَّ‭ ‬سُحباً‭ ‬بلون‭ ‬الحليب،‭ ‬في‭ ‬مطعم‭ ‬هلامي‭ ‬عائم‭ ‬بالهواء‭ ‬نتناول‭ ‬سحابتين‭ ‬صغيرتين‭ ‬كوجبة‭ ‬إفطار‭ ‬بشهيةٍ‭ ‬لا‭ ‬حدود‭ ‬لها‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬ثمنها‭ ‬إلاّ‭ ‬قبلات‭ ‬نطبعها‭ ‬على‭ ‬لوحة‭ ‬ذهبية‭ ‬معلَّقة‭ ‬بالفراغ،‭ ‬نهجسُ‭ ‬بعدها‭ ‬بطاقة‭ ‬هائلة‭ ‬تسكنُ‭ ‬جسدينا؛‭ ‬بينما‭ ‬الناس‭ ‬الذين‭ ‬كانت‭ ‬أجسادهم‭ ‬من‭ ‬مطر‭ ‬ينظرون‭ ‬نحونا‭ ‬بغرابةٍ‭ ‬لأننا‭ ‬من‭ ‬دم‭ ‬ولحم،‭ ‬فيحاصرنا‭ ‬الحرج‭ ‬من‭ ‬نظراتهم‭ ‬التي‭ ‬تلاحقنا؛‭ ‬حتى‭ ‬نقرر‭ ‬مغادرة‭ ‬تلك‭ ‬المدينة‭ ‬بلمح‭ ‬البصر‭ ‬ونعود‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬المناذرة‭ ‬؛‭ ‬لقدْ‭ ‬أنهيت‭ ‬القصة‭ ‬في‭ ‬حينها‭ ‬لأنَّ‭ ‬رغيف‭ ‬الخبز‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬بحضني‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬انتهى‭ ‬إلى‭ ‬معدتي‭ ‬هو‭ ‬الآخر‭ ‬وبذلك‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬خاتمة‭ ‬للقصة‭. ‬كان‭ ‬صديقي‭ ‬عرب‭ ‬خلال‭ ‬سردي‭ ‬الشفاهي،‭ ‬يقاطعني‭ ‬بين‭ ‬حين‭ ‬وآخر‭ ‬طالباً‭ ‬مني‭ ‬تقبيل‭ ‬فتاتي‭ ‬المراهقة‭ ‬ومطارحتها‭ ‬الغرام،‭ ‬لكني‭ ‬كنت‭ ‬أتجاهل‭ ‬طلبه‭ ‬بغضب‭ ‬مكتوم،‭ ‬لا‭ ‬أدري‭ ‬لماذا‭ ‬حرصت‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬نقاء‭ ‬وبراءة‭ ‬القصة‭ ‬حتى‭ ‬نهايتها‭ ‬ولم‭ ‬أفكر‭ ‬مطلقاً‭ ‬باستغلال‭ ‬تلك‭ ‬الرحلة‭ ‬لمآرب‭ ‬شخصية‭ ‬رخيصة‭ ‬أو‭ ‬لرغبات‭ ‬جنسية‭ ‬مع‭ ‬تلك‭ ‬الفتاة‭ ‬برغم‭ ‬توفر‭ ‬فرصة‭ ‬الخلوة‭ ‬لدينا؛‭ ‬لقد‭ ‬حاول‭ ‬صديقي‭ ‬عرب‭ ‬بيوم‭ ‬آخر‭ ‬أنْ‭ ‬ينسج‭ ‬قصة‭ ‬على‭ ‬منوال‭ ‬قصتي،‭ ‬واختار‭ ‬سيدة‭ ‬جميلة‭ ‬من‭ ‬مدينة‭ ‬المناذرة؛‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يتمكن‭ ‬من‭ ‬مواصلة‭ ‬القصة‭ ‬فلقد‭ ‬شحّ‭ ‬خياله‭ ‬فجأة‭ ‬وتعثر‭ ‬على‭ ‬لسانه‭ ‬السرد،‭ ‬هزّ‭ ‬رأسه‭ ‬يائساً‭ ‬وطلب‭ ‬مني‭ ‬أنْ‭ ‬أعيد‭ ‬على‭ ‬مسامعهِ‭ ‬قصتي‭ ‬العجيبة‭ ‬مع‭ ‬تلك‭ ‬الفتاة‭ ‬المذهلة‭ ‬الجمال‭ ‬بعد‭ ‬أنْ‭ ‬وضع‭ ‬رغيفه‭ ‬بحضني‭ ‬حتى‭ ‬أبقى‭ ‬أسرد‭ ‬القصة‭ ‬إلى‭ ‬أطول‭ ‬وقت‭ ‬ممكن،‭ ‬لكني‭ ‬أعدت‭ ‬الرغيف‭ ‬ليديهِ‭ ‬وقلت‭: ‬قصتي‭ ‬زمنها‭ ‬رغيف‭ ‬واحد‭ ‬وليس‭ ‬رغيفين

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *