– أمس أخذني ضيف من أقربائنا في جولة بالليل!.
استغربت فسألته:
– جولة بالليل!
لمعت عيناه وقال بصوتٍ أخفض:
– أي سلومي أي جولة شفت بها العجايب!
أزداد الموضوع غرابة:
– العجايب؟!
فَشَرَح الأمر بكلماتٍ تخرج من بين ضحكاتٍ مكتومةٍ، أستطيع رؤية وجهه وشكله حياً وبدقةٍ بالرغم من مرور قرابة خمسين عاماً؛ تقاطيع ناعمة متناسقة بيضاء، بعينين صغيرتين ضاحكتين وحنك به رصعه ظاهرة. لم أره، ولا أعرف مصيره، منذ تلك الأيام، إذ غابَ في الجيشِ، وخضت في اللجةِ والسياسةِ لاحقاً، لم أنسه أبداً، وكيف نسيان من أورثنا أو سهّل لنا فكرة التلصص على شبابيك بيوت الناس كاسراً حاجز القيم والتقاليد، وجرّأنا على هتكِ حرمة البيوت. وَاصَلَ همسه بأذني:
– سلومي.. شِفِتْ العجايبْ جنة لذيذة وخوفْ!.
احتدمَ فضولي، وأشتعلَ خيالي، فطلبتُ منه المزيد من المشاهدِ. كان يختنق ضحكاً في سكون الليل والشارع وتتضرج قسماته نشوةً، انتظرتُ إلى أن هدأ، ومن وجهٍ بهِ مسرة همسَ:
– بعد ساعة راح أخذك بجولة الأمس العجيبة!
أردتُ أن نضعَ كتبنا في بيتِ أهلي القريب، لكنهُ أشارَ بضرورتها هامساً تنفعنا لما يشك بنا أحدهم نتصّنع المذاكرة تحت أقرب مصباح شارع.
قادني في الظلامِ بين الأزقةِ، نسير مثل لصوصٍ على أطرافِ الأصابعِ وبمحاذاةِ الحيطان، دلّاني على شبابيك بيوتٍ يعرفها، كانَ ينظر إلى ساعتهِ قبلَ أن يخطو أمامي خفيفاً غير محسوس نحو نافذةٍ يتسلل منها ضوءٌ خفيفٌ في ساعةٍ محددةٍ، رأيتُ وسمعتُ أهات ، وعراك عريٍ بين أزواجٍ سادرينَ في روتينِ الليل اليومي، لا يفكرونَ بثمة من يتلصص عليهم ويشاركهم بحواسه وجسده، اغتصابات يقوم بها الرجل دائماً، حوارات بصوتٍ خافت ترفض فيه المرأة ، ويصّر الرجل عليها. أول مرة أشاهد وأسمع امرأة تصر، والرجلُ يُبعِد ذراع المرأة الراقدة جواره، عن شيئه مردداً بلهجةٍ قاطعةٍ:
– كافي…كافي !.
وقتها لعّناهُ كنا نريد رؤيتهُ وهو يضاجع امرأة متوقدة بالشهوة لكنهُ تركها محزونةً وتركنا دون ذروةٍ. الظالمُ كانَ يفعلها في ليالٍ أخرى في جولاتي الفردية التي طابت ليَّ، ليلٌ وهيمانٌ ورؤية أجساد نساءٍ انحسرت عنها الثياب في بعثرةِ النومِ، نيران اللذة المتأججة بالصمتِ والظلامِ وعيناي تتوقدان بالأجسادِ المتشابكةِ، وسمعي يطرب لآهاتِ اللذةِ وألمِ، وخوفٌ يُجمد الأنفاس والحواس في أقصى يقظتها. تتلصصْ وتراقبْ المحيطَ خوفاً من الفضيحةِ. مزيجٌ فريدٌ من اللذةِ والخوفِ والمغامرةِ ألقاني بهِ وذهبَ إلى الجيشِ، اللعنة عليكَ يا “باسم” دفعتني في جحيمٍ فريدٍ لا ألذَ منه، وأورثتني حاسة التلصص. أنعتها حاسة لأنها لازمتني حتى الآن بشكلٍ خفيف. اللعنة عليك سأكتشف لاحقا ومع تقدمي في العمر بأنني أستطيب التلصص أكثر من المضاجعة نفسها.. اللعنة عليك.. اللعنة..
بحثتُ عنه في عودتي بعد الاحتلال 2003 لكن لم أعثر على أي أثرٍ لهُ.
تركني وحدي مجنوناً بالتلصص مسحوراً بعري الجسد الأنثوي وهو يسعي للدخول بالآخر، يصرخ ويلهث ويحتدم متقلباً، لحظات حية لم تزل تعش معي بعد مرور نصف قرن. وقتها لم أحظ بحبيبة تخفف هذا الوهج الذي أشعلته الغريزة و “محلة حي العصري”. وبالرغم من نضجي المبكر واختلاطي بوسط المدينة الأدبي لكن الثقافة لم تهذب عصف الغريزة بداخلي بل أضرمتها وهي تحررها من منظومة القيم والتقاليد، فشبت لهباً بقراءة سارتر، كولون ولسن، فرويد، وحشد الروائيين العظام، وزاد اللهب لهباً “عرق العصرية العراقي” الذي أدخلني طور الجنون الحقيقي ففي السكر والليل والوحدة تسقط الأعراف وتنبثق الجرأة في روح مغامرٍ من طرازي وأنا في أوج المراهقة والتمرد (وهل ينتهي دور المراهقة في مجتمع الكبت) فأتأرجح مشدوداً بين طرفين كبت مطلق وحرية مطلقة بلورتها وأطلقتها الثقافة.
– هل ما أكتبه تبرير لشذوذي وخرقي للقيم وحرمة بيوت الناس.. لا أدري؟!.
لكنني سأكتشف لاحقاً أن الجميع يتلصص على القريباتِ أو من شباكٍ يمّر به صدفةً، والعديد تجرأ مثلي وراح يهيم في الليالي ناهلاً من بحر الأسرار، بعضهم ضُبِطَ فانفضح، وهذه القضايا لا تصل أغلبها إلى الشرطةِ والمحاكمِ بل تحلّ اجتماعياً لتفادي انتشار الفضيحة. المهم أنني وخلاصاً من نسق العائلة وقوانين “علية عبود” الصارمة بتُ لا أصعد إلى سطح الدار وقت الصيف لأني أولا أعود في ساعة متأخرة من الليل مخموراً، من جلسات صحبتي الشعراء “علي الشباني”، “عزيز سماوي”، “كزار حنتوش”. لا أحتاج إلى قرع الباب، أقفز لأعتلي سياج حديقة المنزل الأمامية بدربةٍ لصٍ، فأجد سريري مرتباً تحت تعريشة العنب في الممر المؤدي إلى باب البيت الداخلية. وضبتيه يا “عليه عبود”.
كنتُ سعيداً جداً يا أمي بفهمك المبكر لخصوصية وضعي وضرورة وحدتي.
لكّن أخيلة السكر، وحاسة التلصص السابعة بتاريخها وحنكتها، واشتعال الجسد المحروم، وغزارة أحاديث الثقافة التي تقرب الأحلام وكأنها في اليدِ، وغمرة أشعار تشيئ المرأة وتجعلها من ضبابِ. وفي احتدام نيران الشهوة، وعالم الشبابيك وأسرارها، تطور الأمر مفضياً إلى مغامراتٍ خطيرةٍ.
في الغمرة تلك يجد نفسه وكأنهُ ملاك في لوحةٍ، فينهض من سريره ويتسلل إلى نهاية الممر الطويل ليصعد فوق تنور الخبز، ثم يتسلق إلى سطح جارٍ مجاورٍ، ليجوبَ من سطحٍ إلى سطح متلصصاً من شبابيك باحات البيوت على أفخاذ النساء العارية، على الأجساد الداخلة في حربٍ بين الأغطية، على الأسرة، على الأرض، ينصت في صمت الليل إلى الآهات والأنين والهمس البذيء هاتكاً الأسرار، وما يجري تحت ستار الليل والسكون؛ نسوة يستقبلن عشاقهنَّ سراً بعد منتصف الليل. خصامات فراش الليل، خيانات، ومضاجعات حبٍ ملتهبة. وكان الهيمان في هذه الرحلات في السكر وبعد جلسات الثقافة مع الصحبة وكأنه في حلم مثير.
لكن، في ليلة كنتُ أجوب أسطح بيوتٍ محيطةٍ. وفيما كنتُ أَهِمّ بحمل جسدي كي أعبر سياج هَوَتْ على رأسي عصا طويلة، وتعالى صراخ، فضجت بعدها السطوح، ركضتُ مثل ذئبٍ مذعورٍ عابراً السطح تلو السطح بسرعةٍ خارقةٍ، بعد أن طارت الأخيلة والسكرة ولاحت الفضيحة. نجحتُ في الوصولِ إلى سفينتي في ضجيج طوفان الصراخِ الذي أنتشرَّ، حكّمتُ الغطاءَ على رأسي متصنعاً النوم، لكن لهاثي وأنفاسي المتقطعة تتفلت من صدري، أرخيتُ أصابعي عن الحافةِ الخفيفةِ حينما شعرتُ بخطواتٍ تقترب من سريري. خطوات أعرفها مرصعةً في قلبي، تلاشت جوار السرير، وأصابعكِ يا “علية عبود” تَسحَب الغطاءَ عن رأسي للحظاتٍ، ثم تسقطهُ على وجهي مثل صفعةٍ، أعقبتها حسرةٍ طويلةٍ تطليقها وأنتِ تبتعدين إلى عمقِ الدارَ مرددةً:
– لا حول ولا قوة إلا بالله.. أنا لله وأنا إليه راجعون!.
لم أفتح عينيّ، جعلتُ أختض حتى الصباحِ مثل محرورٍ.)