قبل ايام مضت تموضعت بعض القوات الامريكية والاجنبية في العراق وقامت باستبدال بعضها واعادت انتشار البعض الاخر، مافسر على ان هنالك مناورات تعبوية لمواجهة النفوذ الايراني في العراق ومنع استخدامه العراق ممرا لدعم محور المقاومة في سوريا ولبنان ودعم فصائل الحشد الشعبي في الداخل، ما اعاد تسليط الضوء على مهام تواجد القوات الامريكية في هذا البلد.
اذ اختلفت مواقف الحكومات المتعاقبة في العراق بعد العام ٢٠٠٣ من تواجد القوات الامريكية والاجنبية، قبولا وتبريرا ورفضا ، وفي الغالب تضطر الحكومة ممثلة برئيسها وقادتها الامنيين الى التعاطي والتماهي مع هذا التواجد رغم محاذيره ورفضه على نطاق واسع شعبيا وسياسيا، لكن ما ان ينال المرشح ثقة البرلمان تتتغير النبرة السياسية والامنية من قبله والقوى السياسية المؤيدة لتكليفه.
وهذا مايحصل الان تحديدا مع الحكومة الحالية ورئيسها محمد شياع السوداني الذي صرح في مقابلة سابقة مع صحيفة وول ستريت جورنال نشرت تفاصيلها يوم الأحد (١٥ – ١- ٢٠٢٣) عن موقفه حول وجود القوات الأمريكية في العراق.
ولم يحدد في هذه المقابلة جدولا زمنيا لانسحابها، اذ قال : ” أن الحاجة للقوات الأجنبية لا تزال قائمة وأن القضاء على(داعش) يحتاج إلى المزيد من الوقت .. لسنا بحاجة إلى قوات تقاتل داخل الأراضي العراقية”،..أن “التهديد للعراق مصدره تسلل خلايا (التنظيم الإرهابي) من سوريا”.” وهنا تصريحه يأتي في إشارة إلى وجود القوات الأمريكية وقوات حلف شمال الأطلسي التي تدرب وتساعد القوات العراقية في مكافحة التنظيم الإرهابي في نطاق يعتقد انه بعيدا وبمنأى عن القتال الفعلي إلى حد كبير.
بالتوازي مع ذلك تنشر الولايات المتحدة نحو ألفي عسكري في العراق للقيام بمهام تدريبية واستشارية، وتنفذ عمليات قتالية هجومية خاصة، كما ينفذ حلف شمال الأطلسي (الناتو) مهمات غير قتالية في العراق، يشارك فيها مئات من العناصر من عدة دول أعضاء أو شركاء للحلف مثل فرنسا وأستراليا وفنلندا والسويد…
لكن المعضلة لاتنحصر بالمهام القتالية او الاستشارية فقط ، بقدر مايتعلق بالتدخلات السياسية التي تقوم بها الولايات المتحدة في العراق سياسيا ، ويعد الوجود العسكري بنطاقه الاستخباري واللوجستي والعمليات الامنية الخاصة التي تقوم بها، ومخاطر ذلك داخليا، وتجاذبات خارجية اقليمية تتعلق بموقف ايران من هذا التواجد وحساسيته وتداعياته على الوضع العراقي اخطر تداعيات هذا التواجد، ومن المستبعد انسحاب القوات الامريكية من العراق، اذ عملت واشنطن على إعادة انتشار لقواتها الى مناطق داخل اقليم كردستان وتموضعت قرب الحدود العراقية السورية في خطوة لمواجهة ايران وعدم السماح لها بالتمركز في سوريا والعراق.
وهذا ماجعل العراق ساحة لتصفية الحسابات بين طهران وواشنطن، فطهران تريد ان يبقى العراق منطقة نفوذ لمواجهة المشروع الامريكي والاسرائيلي ومكافحة اي تهديد لنظامها وامنها القومي ، في المقابل تعتقد واشنطن ان وجود ايران في العراق هو مفتاح لمضاعفة نفوذها في كل المنطقة باتجاه سوريا ولبنان ومن ثم تهديد اسرائيل اضافة الى حلفاءها العرب في منطقة الخليج .
وعند التمعن بدقه حول الموقف من هذا التواجد نجد انقساما سياسيا واضحاً ازاءه، فالكرد بالكامل وغالبية السنة ليس لديهم اي تحفظات ضد التواجد الامريكي ، في حين الشيعة لديهم رفض صريح لهذا الوجود مع ميولات مؤيدة لبعض قواه العلمانية ، مع تحول في الموقف من القوى السياسية التي تساند رئيس الوزراء نحو التغاضي عن التصعيد ضد هذا التواجد في المرحلة الحالية.
ان الاسوء من كل ذلك هو تحول الموقف من هذا الصراع والتنافس بين مؤيد لايران ورافض للولايات المتحدة والعكس كذلك :
إلى سجال عنيف بين فريقين : فريق يدعو لضرورة إخراج القوات الأمريكية من العراق لأنها تنتهك سيادة العراق، وفريق آخر يرى خلاف ذلك يؤيد الوجود الامريكي لموازنة النفوذ الايراني المتزايد في العراق، وفقا للمصالح السياسية الحزبية وليس وفقا لمقتضيات المصلحة العامة والعليا للدولة.
ومن التداعيات المحبطة لهذا الصراع بين تدخلات سياسية وتواجد عسكري من قبل طهران وواشنطن، تحول سياسة الضغوط القصوى امريكيا ازاء ايران نحو العراق بطريقة مباشرة ، اذ استخدمت واشنطن مؤخرا ازمة سعر الصرف كسلاح للضغط على السوداني لفك ارتباطه بقوى الاطار التنسيقي المقربة من ايران من جهة، والسيطرة على تهريب الدولار الى ايران تحت اي مسمى كوسيلة ضغط اخرى ضد طهران مما يعمل على خلط الاوراق وتغيير في المواقف نتيجة تردي الاوضاع الاقتصادية، اذ ان هذا الامر سيعمل ، اذا ما استفحل على تراجع قيمة الدينار العراقي ، وتحريك الرأي العام والشارع اضافة الى القوى السياسية المناوئة للاطار التنسيقي نحو الاحتجاج ، لغرض الضغط على الحكومة وعرقلة عملها.
اذ ان ضعف السياسات النقدية العراقية مرتبط بالتوتر المستمر بين إيران والولايات المتحدة حول النفوذ في العراق واستفحال مشاكل العملة وعدم الاستقرار العام في البلاد ستزداد سوءًا إذا لم يتصرف رئيس الوزراء السوداني. بعيدا عن الاصطفاف مع طهران، ويتقارب مع واشنطن.
ومن المرجح نجاح السوداني على الموازنة بين المصالح الايرانية والامريكية حاليا
، لكن ليس بصورة مستمرة وبسياق غير حاس لملف التواجد الامريكي من جهة وملف النفوذ الايراني من جهة اخرى، والاستمرار بهذه الطريقة في الادارة غير الحاسمة للازمات والمشكلات، لايعطي توقع ماذا سيحصل من عواقب وخيمة.
ماتريده واشنطن يرتكز على استغلال الواقع الاقتصادي والانقسام السياسي والفوران الشعبي، وانبثاق تنظيم داعش من جديد، عبر تحييد العراق من ايران مقابل تمكينه اقتصاديا وامنيا وسياسيا، والعكس الصحيح تماما.
وواشنطن لاتريد اي مواجهة مباشرة مع ايران في العراق، ولهذا تعمل واشنطن الان على إدامة زخم تلك الضغوطات على طهران وحكومة السوداني في محاولة لجعل الاخيرة تتصرف بنحو غير داعم لايران بما يعزز نجاعة الضغوط القصوى، ويجبر ايران على التعامل وفق هذه المعطيات الجديدة، او مواجهة العراق لضغوطات اقتصادية وامنية لا تقوى على مواجهتها.
في حين ان ايران تريد من العراق ان يكون بوابة للمواجهة غير المباشرة مع امريكا وحلفاءها وممرا لدعم حلفاء واشنطن وهذا يقتضي ان يتزايد نفوذها السياسي والاقتصادي في العراق وتحريك مفاصل العملية السياسية.
هذه المعادلة هي اصعب التحديات التي تواجه حكومة السوداني حاليا رغم وجود تفاهم بين الطرفين في قضايا تبادل الاسرى وصفقات اطلاق الاموال الايرانية المحتجزة، لكن لازالت التوترات قائمة ماينذر بعدك تشابك المصالح وتأثير ذلك على العراق.