(كان هنالك ملِكاً يحكم إحدى صقاع الأرض ، حيث ورث الحكم عن أبيه ، لكنّه ما كان يشبه أباه في أيٍ مّن الخصال ، ولا الفِعال . حيث كان يأمر بالعدل ، وإنصاف الرّعيّة في مختلف مفاصل الحياة . وفي يومٍ مّن الأيّام قرّر هذا الملِك أن يّؤرّخ الحقبة الّتي حكم خلالها أبوه البلاد ، فأمر بجمع علماء التّأريخ والكُتّاب من الدّرجة الرّفيعة الّذين كانوا من ذوي الحظوة في مجلس الملِك ، وأمرهم بكتابة تأريخ تلك الحقبة على أن يّكون جزاؤهم مّوفوراً . وبعد شهورٍ مّعدوداتٍ أتمّ العلماء كتابة التّأريخ ، وكانوا قد كتبوا عهداً ذهبيّاً ازدهرت فيه البلاد وعاش فيها الفقراء نعيماً . سُرّ الملِك بهذا التّأريخ الّذي لم يكن يّعلم عنه شيئاً لأنّه كان حبيس القصر والرّفاهية ، فلا يخرج فيرى بؤس النّاس وأوضاعهم الرّثّة . وفي يومٍ مّن الأيّام قرّر الملِك أن يّتنكر بزيٍ غير زيَّه المذهّب والمشذّر ، وينزل إلى السّوق ليتفقّد أحوال النّاس وما آلت إليه أوضاعهم في فترة حكمه . مشى بين النّاس ولم يعرفه أحد لإجادته في تنكّره ، وبينما كان يطرف على المحال ، وقف عند محلٍّ يجلس فيه رجلٌ كادحٌ طاعنٌ بالسنّ يُجلس في حجره صبٌيّ لم يبلغ الحُلم ، فصار الملِك يقلّب في بضاعة الرّجل العجوز ويستمع إلى حديثه مع الصّبيّ بإذعان شديد ، حيث كان يقول العجوز : “لقد حكمَنا قبل هذا الملِك ملِكٌ سيّء الخُلق ، جوّع العباد ، وأكل منهم رزقهم ، وقتّل الخَلق بطغيانٍ بلا ذنب ” ، فدُهش الملِك من قول العجوز وتبيّن له أنّ المؤرّخين قد جمّلوا تأريخ أبيه من أجل رضاه والعطاء الجزيل . فأمر بالعجوز ليؤرّخ حقبة أبيه بعد أن أتلف ما كتبه العلماء )
القصّة السّالفة هي من قصص الأجداد الجالسين في المقاهي لأحفادهم ، وهي دليل جازم على أنّ التّأريخ لن يّقوم قائمة صحيحة ، لأنّ أغلب المؤرّخين من تُبّاع الملوك . فكلّ الحضارات العظيمة والامبراطوريّات الكبيرة والدّول التّوسّعيّة قامت على حساب الكادحين . يُذكر في التّأريخ أنّ الملك الفلاني قد أقام دولة كبيرة مزدهرة ، لكنّ التّأريخ ما ذكر آثار السّياط على ظهور العبيد ولا استحياء جيوش الملوك للنّساء ، وما ذكر ازدراء الكادحين ولا ويلاتهم . فالتّأريخ الحقيقي ليس بالضّرورة ما كُتب في بطون مجلّدات العلماء المرفّهين ، بل هو ما يجري على ألسنة الكادحين ..!