شخصية تتقد فكراً وعلماً.. تتطلع نحو المستقبل بأفاق رحبة.. ووجه مميز عراقياً وعربياً وعالمياً في السياسة العراقية المعاصرة
شخصية مدنية نالت علومها بوسائل حديثة.. واغترفت من الثقافة الأجنبية.. بما يناسب روح العصر ومحاكاة الشعوب.. بما يؤهلها في توفير مستلزمات النهوض بالمجتمع المدني الحديث
آمن بالليبرالية.. والنظام الديمقراطي.. وفق إرادة وطنية تمتلك من المقومات التي تنسم مع الماسونية.. بما يفتح الطريق أمامها
تميز بإنجازاته.. وصنف ضمن التيار الليبرالي في العراق.. مستفيداً من فترة وجوده الطويلة في وزارة المعارف في تأسيس علاقات مع فئة من الشباب الجامعي الطامحين في النيابة والوزارة حيث استثمرهم.. فأسند لهم مناصب حققت للعراق فوائد كبيرة
السيرة والتكوين
من عائلة دينية عراقية معروفة.. ولد في مدينة الكاظمية ببغداد العام 1903.. نشأ في بيئة دينية يغلب عليها الالتزام والمحافظة.. درس الجمالي في مدرسة الإمام الخالصي
كان يذهب إلى مدرسة الأليانس كل يوم جمعة لاقتناء الكتب الفرنسية وتعلم اللغة الفرنسية من المسيو كوهين.. ثم دخل دورة للمعلمين افتتحت للمدارس الابتدائية في بغداد بعد الاحتلال البريطاني العام 1918
– عين بعدها معلما في 19 تشرين الثاني 1918 .. وزاول مهنة التعليم في المدارس العراقية لمدة أربعة سنوات
– العام 1922 سافر إلى بيروت للدراسة في الجامعة الأمريكية والتي رفض أهله في البداية الموافقة على سفره.. ولقد نال شهادة بكالوريوس فنون في التربية من الجامعة الأميركية في بيروت العام 1927
– عاد إلى بغداد واشتغل في التدريس في دار المعلمين الابتدائية.. ثم أوفد إلى خارج العراق لإكمال دراسته في جامعة كولومبيا بمدينة نيويورك العام 1929
المناصب التي شغلها
ـ عين مدرساً في دار المعلمين العالية .. وتدرج إلى إن حصل على المرتبة العلمية الأستاذية
ـ عين مرشداً عاماً في وزارة المعارف العام 1932.. ومديراً عاماً لها فمفتشاً عاماً أيضاً
ـ نقلت خدماته إلى وزارة الخارجية بدرجة مدير العام 1943
ـ أنضم إلى الوفد العراقي للمشاركة في مؤتمر سان فرانسيسكو العام 1945
ـ ساهم في إعداد ميثاق هيئة الأمم المتحدة.. ووقع وصادق عليها ممثلا عن بلده (المملكة العراقية) العام 1945
ـ عضواً في المجمع العلمي العراقي العام 1949
ـ ممثلاً للعراق في هيئة الأمم المتحدة العام 1945
ـ وزيراً للخارجية لثماني مرات.. بين 1946 ـ 1952
رئيساً لمجلس النواب العام 1952
ـ رئيساً للوزراء مرتين بين 1953 ـ 1954
وزارته الأولى
بعد استقالت وزارة جميل المدفعي السابعة.. كانت أكثرية الآراء تقول بضرورة حل مجلس النواب القائم الذي جمعته وزارة نوري الدين محمود في ظل الأحكام العرفية المعلنة في حينه.. لكن الجمالي خالف آراء الأكثرية بحل المجلس النيابي.. فهو رئيس المجلس هذا واختبره بنفسه.. وهكذا وجد الملك والأمير عبد الإله إن هذا الرأي هو الأصلح
وهكذا شكل الدكتور محمد فاضل الجمالي وزارته في 15 أيلول 1953.. وهو أول وآخر دكتور يشكل وزارة في العهد الملكي.. ليؤلفها من أصحاب الشهادات العليا.. ومن حقل التدريس.. ممن يتمتعون بالحيوية والنشاط والكفاءة والنزاهة.. مع قلة خبرة في العمل السياسي.. تاركاً للملك اختيار وزير الدفاع من قبله مباشرة.. انطلاقاً من كون الملك القائد العام للقوات المسلحة العراقية.. فأختار ولي العهد الأمير عبد الإله حسين مكي خماس وزيراً للدفاع
قوبل تأليف هذه الوزارة بارتياح من قبل الرأي العام.. لأنها جاءت بعدد من العناصر الشابة إلى الحكم.. بعد أن ملً الناس الوجوه القديمة.. وتكونت من ثمانية عشر عضوا كان ثلثاهم من المستقلين.. وأربعة من حزب الاتحاد الدستوري وعضوان من الجبهة الشعبية.. فيما جوبه الجمالي بعدم رضا السياسيين التقليديين الذين سبقوه في تشكيل الوزارات.. الذين عرفوا بمحافظتهم على الرتابة والروتينية ذات الصيغ البطيئة النمو والتطور في ديناميكية العمل اليومي.. ومنهم توفيق السويدي الذي قال إن الجمالي اخطأ حينما اختار وزرائه من الشبان أصحاب الشهادات
يقول احمد مختار بابان (رئيس الديوان الملكي) إن نوري السعيد اشتاط غضباَ لعدم استشارته باختيار الجمالي رئيسا للوزراء.. بينما يرى ناجي شوكت إن عدم اشتراك احد من أتباع نوري السعيد في هذه الوزارة أدى إلى غضبه وسفره إلى الخارج.. وكان مجلس النواب يشكل أكثرية مطلقة لأتباع نوري السعيد.. فمنذ البداية أخذ نوري السعيد وضع العراقيل أمام وزارة الجمالي لإسقاطها من خلال هذا المجلس.. كذلك من خلال السياسيين التقليدين الآخرين
انجازاته الداخلية
كانت أهم نشاطات وزارة الجمالي
ـ إلغاء الأحكام العرفية التي أعلنتها وزارة نور الدين محمود في 23 تشرين الثاني 1952
ـ أعادت الحياة الحزبية التي عطلها نور الدين محمود آنذاك ..واستأنفت الأحزاب نشاطها مجددا
ـ لكن إلغاء الأحكام العرفية لم يدم طويلا.. حيث اضرب عمال شركة نفط البصرة مطالبين بتحسين أحوالهم المعاشية.. ولما تعثرت المفاوضات لحل مشاكل العمال واستمر الإضراب أعلنت الأحكام العرفية مجددا.. وعطلت تسع صحف يومية.. واقتصرت الأحكام العرفية على منطقة البصرة .. وإزاء ذلك احتج حزب الجبهة الشعبية على إعلان الأحكام العرفية وتم سحب وزيريه من الوزارة (عبد الرحمن الجليلي وحسن عبد الرحمن) كما احتج الحزب الوطني الديمقراطي
أما على الصعيد الخارجي
ـ فقدر شرعت الوزارة في التمهيد للسير بمشروع الاتحادين سورية والعراق قدماً.. وقدم الجمالي مشروع الاتحادين البلدين إلى جامعة الدول العربية في اجتماع كانون الثاني 1954.. وأخذت حكومات الدول العربية دراسته بإمعان
الحقيقة إن الجمالي حاول جاهدا تحقيق الاتحاد السوري والعراقي ممثلاً بالخطوة الأولى لمشروع الاتحاد العربي الذي قدمه الجمالي إلى الجامعة العربية على أساس الاتحاد التدريجي.. الذي يبدأ باتحاد سورية والعراق
ـ أثار هذا المشروع معارضة شديدة في بعض الأوساط العربية.. واتهم بأنه يمثل السياسة العراقية.. وانه محاولة لبعث مشروع الهلال الخطيب في إطار جديد بل.. وأثيرت ضده دعايات وعلقت به الشبهات.. وبعد أيام أعلنت مصر والسعودية عن رفضها للمشروع.. ونظرتا إليه بعين الشك.. كما رفضته سورية على أساس انه تجسيد لمشروع الهلال الخصيب تحت زعامة العراق ..والذي عارضة الشيشكلي طوال حياته السياسية
ـ المهم ظل الجمالي وفياً لسياسته في العمل على تقدم العراق من خلال تعزيز العلاقات مع الغرب وأميركا.. فنجده يلقي خطابا في مؤتمر باندونغ لدول عدم الانحياز الذي عقد العام 1955 حيث كان وزيراً لخارجية حكومة نوري السعيد: واصفاَ الاستعمار القديم بأنه في طريقه للزوال.. وان الدول الواقعة تحت سيطرته قد تحررت.. ووصف الصهيونية بأنها الفصل الأخير في كتاب الاستعمار القديم أي إنها في طريقها إلى الزوال أيضا.. وعلى دول العالم الثالث الانفتاح على العالم المتقدم
محاكمة الجمالي
بعد سقوط النظام الملكي وقيام الجمهورية في 14 تموز 1958 أحيل فاضل الجمالي إلى المحكمة العسكرية العليا الخاصة.. وفي دفاعه عن الاتحاد العربي يقول الجمالي “بعدما غادر الشيشكلي دمشق وعقد مؤتمر حمص.. وأصبح الأتاسي رئيسا للجمهورية.. وتشكلت حكومة جديدة برئاسة العلي بدأت الاتصالات بيننا وبين بعض زعماء سورية عن الاتحاد بالصورة الدستورية.. لكن معارضة نوري السعيد الذي كانت له الأكثرية في البرلمان لسياستي في الاتحاد مع سورية حملتني على الاستقالة.. وهي كانت السبب الرئيس المباشر لاستقالتي .. ويضيف الجمالي إلى ما تقدم فيذكر في كتابه ذكريات وعبر ” أما فيما يتعلق بسورية فقد ذكرت بأن نوري أوقف كل جهودي للمضي في تحقيق الاتحادين العراق وسورية لم يوافق على إنفاق ربع مليون دينار على مشروع الاتحاد.. لكن العراق خسر نحو خمسين مليون دينار عندما دمر السوريون أنابيب الزيت العراقية التي تمر في سورية
وزارة الجمالي الثانية
نصت الفقرة الثانية من المادة (64) من القانون الأساس العراقي على: ” الوزير الذي لم يكن عضواً في احد المجلسين لا يبقى في منصبه أكثر من ستة أشهر ما لم يعين عضواً في مجلس الأعيان.. أو ينتخب لمجلس النواب قبل ختام المدة المذكورة “.. وقد كان بين أعضاء الوزارة الجمالية الأولى من يطمع في العينية أو النيابية.. لكن السلطات العليا لم تجد فيهم المؤهلات المطلوبة لذلك.. فلما قاربت المدة القانونية.. ولم يفلح هؤلاء بالحصول على عضوية أي من المجلسين قدم الجمالي استقالته.. التي قبلت في 2 آذار 1954.. وكلف الجمالي أيضا بتأليف الوزارة.. التي ألفها في 8 آذار1954
ان طلب اعادة تشكيل الوزارة.. لا طمعاً بحنكته السياسية.. ولا تقديراً لمساعيه التي أسفرت عن فوضى سادت البلاد.. لكنه قام بمساعدة الحركات المتمردة في سورية.. وأمدها بوسائل كثيرة.. بهدف اسقاط حكومة سورية.. ومجيء حكومة في خدمة العراق وبداية لإيجاد عرش للأمير عبد الاله.. بعد ان توجد فيصل الثاني ملكاً على العراق.. ولم يعد لعبد الاله عرش!!
لم تدم وزارة الجمالي الثانية طويلاً.. فبعد أربعين يوماً من تشكيلها سقطت هذه الوزارة بسبب المعارضة الشديدة للأكثرية البرلمانية من أتباع نوري السعيد.. مما أدى إلى أخفاق الحكومة في تحقيق الاتحاد مع سورية.. وإخفاقها في انضمام العراق إلى الحلف التركي الباكستاني.. وقبل أن يقدم استقالته بأربعة أيام استجابت الولايات المتحدة الأميركية لطلب العراق بتقديم المساعدات العسكرية.. ونددت جريدة ” لواء الاستقلال ” بالمساعدات العسكرية الأميركية وقالت أنها تفتح بابا للتدخل الأميركي.. من دون الاطلاع على اتفاقية التعاون مع الولايات المتحدة
وفي التاسع والعشرين من نيسان 1954 قدم الجمالي استقالة وزارته التي قبلت.. حيث شكل ارشد العمري وزارته الثانية.. التي استوزر فيها الجمالي وزيرا للخارجية التي استقالت في آب العام 1954 ثم استوزر الجمالي وزيراً للخارجية في وزارة نوري السعيد الرابعة عشرة.. التي تشكلت في 3 آذار 1958.. وبقيً فيها حتى قيام ثورة 14 تموز 1958 وسقوط النظام الملكي وإعلان الجمهورية
محاكمته
– بعد أسبوع من قيام ثورة 1958.. القيً القبض على محمد فاضل الجمالي.. وفي يوم السبت 20 أيلول / سبتمبر/ العام 1958 جرت محاكمته من المحكمة العسكرية العليا الخاصة (محكمة الشعب) عن التهم الموجهة إليه كان أبرزها : 1ـ التدخل في شؤون سوريا الداخلية.. والتآمر على كيانها وسلامتها.. خلافا لمصلحتها القومية.. وارسال قطعات من الجيش العراقي على الحدود العراقية السورية بحجة حماية سورة.. واثبتت الوقائع مان التآمر على سورية لإسقاط نظامها التحريري لغرض اقامة حكم للأمير عبد الاله بعد ان تم تتويج فيصل الثاني ملكاً للعراق ..وتم صرف اموال كثيرة من المال العام لإيجاد عملاء لتشكيل فرق من العملاء لتحقيق هذا الامر
– الجمالي: كان ماسونيا.. وظل ماسونيا حتى وفاته.. فلم يشر الماسونيون الى انه استقال منها.. ففي حديثه الموجز عن سيرته يذكر المشنقة.. أي انه حكم بالإعدام, دون أن يذكر السبب والتهمة الموجهة اليه.. فهو شخصية بارزة في النظام الملكي بل لأنه ماسوني. حين استلم الزعيم عبد الكريم قاسم الحكم في العراق اغلق المحافل الماسونية وامر الماسونيين بمغادرة العراق.. ومن لم يفعل سوف يعرض نفسه لعقوبة الإعدام. ويبدو لسبب ما لم يغادر الجمالي العراق فحكم بالإعدام على هذا الاساس
– نشر الماسونيون جزءا من محاكمة الجمالي.. الذي يتهم فيها المهداوي الماسونيين العراقيين بأنهم ينفذون اوامر الانكليز.. وهذا امر لا شك فيه ولدي ادلة كثيرة على ذلك
– لم ينكر الجمالي انتماءه للماسونية. لكنه دافع عنها بقوة لذلك نشر الماسونيون محاكمته لأنه لم يخذلهم
جلسات محكمة المهداوي كلها مسجلة لأنها كانت تبث على الهواء مباشرة دون مونتاج ودون تقطيع ولابد أن محكمة الجمالي ايضا موجودة باللغة العربية فالماسونيون نشروا جزءا منها مترجما الى الانكليزية
وحكمت عليه المحكمة بالإعدام شنقا حتى الموت
بقيً الجمالي في السجن.. وفي تموز العام 1961.. وبمناسبة الذكرى الثالثة لثورة 14 تموز استدعى الزعيم الركن عبد الكريم قاسم (رئيس الوزراء) وجميع السجناء من أقطاب النظام الملكي.. والتقى بهم ثم أطلق سراحهم
حياته الجديدة
مكثً الجمالي مده قصيرة في بغداد.. ثم حصل على موافقة السفر خارج العراق.. فغادرها لينتقل بين عواصم بعض البلدان
ودعته الحكومة التونسية للإقامة في تونس.. وكرمتهُ وأطلقت اسمه على شارع في العاصمة التونسية.. وكان زعماء المغرب العربي خاصة الملك محمد الخامس والرئيس السابق الحبيب بورقيبة يقدرون نشاطه.. وقد دعيً الجمالي للإقامة في تونس.. فرفض أن يبقى دون عمل.. وفضل العودة إلى مسلكه القديم.. وهو التعليم في الجامعة التونسية.. كما دعيً ليحاضر في كل من جامعتي هارفارد والسوريون.. وكان يردد دائما.. حتى حينما كان رئيساً للوزراء : انه معلم أولا وقبل كل شيء.. وسيبقى معلماً
موقف لا ينسى
تسلمً الدكتور محمد فاضل الجمالي عندما تلقى في العام 1995 دعوة من عمدة نيويورك لحضور الحفل الذي أقيم بمناسبة مرور خمسين سنة على توقيع ميثاق الأمم المتحدة.. حيث كان الجمالي.. ربما من القلائل من بقيً على قيد الحياة.. وممن أسهم في التوقيع على الميثاق العام 1945.. إذ كان يعمل في وزارة الخارجية العراقية في تلك الفترة
رفض الجمالي حضور الاحتفال.. على الرغم أن مثل هذه الدعوة يحلم بها أي سياسي أو دبلوماسي في العالم.. وكتب رسالة مبرراً رفضه عن المشاركة في ظل السياسة الأميركية.. التي فرضت حصاراً قاسياً على الشعب العراقي في بسبب سياسات النظام السابق الكارثية.. كان هذا موقفاً وطنياً في كل المقاييس.. في رفض السياسة العدوانية الغربية تجاه شعب العراق
مؤلفاته
ظل الجمالي يزاول نشاطه تربوياً وباحثاً حتى بلغت مؤلفاته (42) مؤلفا معظمها في التربية والتعليم.. وقليلاً منها في السياسة. منها
العراق الجديد.. مشكلة تربية العشائر البدوية فيه (أطروحة الدكتوراه)..
مستقبل التعليم في العراق.. آفاق التربية في البلاد النامية..
العراق الحديث : آراء ومطالعات في شؤونه المصيرية..
مواقف وعبر في سياستنا الدولية.. مأساة الخليج والهيمنة الغربية الجديدة..
صفحات من تاريخنا المعاصر..
نحو تجديد الفكر التربوي في العالم الإسلامي..
مواقف وعبر في القضية الفلسطينية..
خبرات وآراء في الدراسة الجامعية.. الخطر الصهيوني..
دعوة إلى الإسلام رسائل من والد في السجن إلى ولده وغيره
نهاية المطاف
لم يتوقف نشاط الجمالي التعليمي والثقافي والبحثي.. حتى توقف قلبه فيتوفي السبت الرابع والعشرين من أيار العام 1997 في العاصمة التونسية.. عن عمر ناهز الرابعة والتسعين.. ودفن في تونس.. حسب وصيته. فقد كان دائماً يقول اريد ان ادفن بتونس