“إذا سألوك عن غزة قل لهم: بها شهيد، يسعفه شهيد، ويصوره شهيد، ويودعه شهيد، ويصلي عليه شهيد”، هكذا يصف الشاعر محمود درويش غزة سابقًا، فبماذا يمكن أن يصفَها الآن، وأرواح الشهداء تعانق عنان السماء أثر وابل الرصاص والقصف الوحشي، الذي نثر أشلاء الاطفال.
تناقلت وسائل الاعلام صوراً لما خفي منها كان اعظم، تلك المشاهد المروعة والقتل والإبادة الجماعية، مشاهد لأشلاء أطفال ونساء وشيوخ وشباب، وعوائل أُبيدت بالكامل وكما قيل شطبت من سجل النفوس، صور كثيرة تنقل عن الهجوم الوحشي والدمار، وحصار بلا غذاء ولا دواء ولا كهرباء. ولا وقود ولا ماء، في صورة لأبشع جرائم الحرب والانحطاط غير الانساني، وهكذا الاطفال يذبحون والعالم يتفرج، وأقل ما يُقال عنها قد مات الضمير.
لا أحد لم يرَ تلك الصور، ولا ضمير حي لم يعتصره ألم، ولا قانون سماوي أو وضعي يقبل بكل ما يحدث، غزة وفلسطين والعراق قد أذلّها الغريب والقريب، وخذلها المجتمع الدولي، الذي مرة يسكت عن كل الجرائم، من تأريخ الاحتلال، وقوانين اخرى اتخذها مجلس الامن والجمعية العمومية للأمم المتحدة، ولم تنفذ، مرة بالفيتو الامريكي، وأخرى بالاستهتار الاسرائيلي بالمنظومة الدولية، والتي ما تزال تشرعن قتل الأبرياء بذريعة الدفاع عن النفس، فيما تبيح دمَ مقاومٍ أجازت له نفس قوانين تلك الأمم بالمقاومة واستعادة حقه المسلوب.
إن غزة لم تنزف اليوم فحسب، بل إن نزفها ممتد على عمق القضية، وانحطاط العدو وصمت الحكام والشعوب، غزة جرحها غائر في عمق التأريخ الأسود للدول الاستعمارية الكبرى، التي جعلت من الكيان الصهيوني واجهة لتنفيذ مشاريعها على العرب والمسلمين، وتأريخًا أكثر سواداً لحكام عرب ومسلمين باعوا قضية فلسطين، خوفًا من عدو كان يرعبهم، وها هو مرعوب ويرتجف تحت ضربات المقاومة وأبناء شعب غزة، الذين لا يبالون بحجم الدمار والقتل، لأنهم على يقين إن لم يقتلوا اليوم سيقتلون غدًا، ولكن الفرق أن يُقتَلَ مجاهدًا خير من أن يقتل متخاذلًا.
غزة اليوم لا تنزف، غزة تتبرع بالدماء، لأمة ميتة، وضمائر بلا ضمائر، غزة تتبرع بالدم لتحيي الأمة التي فقدت وعيها وصوابها وقضيتها، غزة تتبرع كي تحيي ما تبقى من الأمة، علها تعود الى حياة يتعامل بها الحكام والشعوب بكرامتهم، ويدافعون عن قضاياهم، غزة تتبرع كي توقف مشاريع التطبيع، وتوقف الأموال التي تتدفق للغرب الذي قتلهم ويقاتل أبناءهم ويدمر مستقبل احفادهم، وباع عليهم سلاحًا كي يتقاتلوا بينهم، غزة لا تنزف، إنها تتبرع بالدم، وكأني أرى في عيون أطفالها، أبطالًا لن يبيعوا القضية مهما كلفت من دماء، وأرى حذاءَ طفلٍ ملطخًا بدماء الشهادة، أشرف ألف مرة من خائن باع دينه ودنياه ومعتقداته.

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *