مرت على العالم الحديث حربان عالميتان ثم تبعتها حروب صغيرة متتابعه للسيطرة على مناطق النفوذ والموارد، ولكن مستمرة، واعقبتها حروب وثورات متسلسلة للتخلص من الهيمنة، واورثت كل تلك الصراعات الكبيرة والمتوسطة ملايين القتلى واضعاف الملايين من العوائل المفككة والأطفال المشردين مع غض النظر عن حجم الخسائر الاقتصادية المروعة.
والإنسان الذي يتوقف عداد حياته في الحرب تنتهي معاناته ويذهب للنوم إلى ما شاء الله والثقل الأكبر والعبء يقع على الناجي من الموت فيخرج من المعارك حاملا جزءا من آثارها، إما بشظايا مستقرة في جسده أو جروح غائرة. وكل هذا يعتبر أمرا هينا مقارنة بالآثار النفسية والعقلية والعصبية وسبل التفكير وبناء الشخصية، فكيف تضع الإنسان في محل تحثه فيه على القتل والتدمير بأقصى طاقة وتتم مكافئته كلما كان إنجازه التدميري كبيرا وعدد من يقتله كثيرا، وعند عودته ليتمتع بالإجازة الوقتية تطلب منه أن يلتزم بالعبور في الشوارع من الأماكن المخططة ولا يتعداها.
تأمره أن يقتل بأقصى قوة، ثم حين عودته لعائلته عليه أن يكون محبا ودودا يسمع الموسيقى الهادئة ويطرب لها ويشتري الزهور ويقرأ الشعر الرومانسي لحبيبته؟
حتى المعادن الصلبة جدا حين تتعرض لفرق جهد عالي جدا من درجات الحرارة بالتسخين الشديد والتبريد المفاجئ يتغير قسم كبير من صفاتها الفيزيائية، فكيف الإنسان الذي يحمل منطقا وفكرا ولديه مخزون هائل وعظيم من الاحاسيس والمشاعر والآمال إلى درجة أن عطر زهرة جميلة ينقله من حال إلى حال آخر مغاير تماما أو زقزقة عصفور أو ترنيمة بلبل؟
وغالبية الذين لم تسلبهم الحروب اجسادهم بغض النظر عن مدة هذه الحروب هم مجانين مقنعون ومرضى نفسيون يحملون اوجاعهم في صدورهم.
وهذه الأوجاع تمزقهم وتأكل من أرواحهم شيئا فشيئا، ويخفون آلامهم تحت لثام الخوف من المجتمع والعرف والدين، فما بالك من يقتل العشرات في أرض المعركة وهو قبل الحرب لا يجرؤ على ذبح دجاجة أو يقف طويلا عند سماعه بكاء طفل لا تربطه به أي صلة.
كل ما سبق ذكره، وتطلبون منا أن نخرج صباح كل يوم نبتسم ونلقي التحية على الجيران، سلوان المسيحي هذا أسمه ولقبه نائب عريف مخابر لاسلكي احتياط، إنسان بكل ما في الكلمة من معنى للإنسانية، بطل لا يهاب الموت مطلقا، ولطالما كنت اتحدث معه:
” أخي سلوان لا تجعل نفسك في كل هجوم مخابرا مرافقا للآمر، كن في المعركة معنا ولكن وجودك قرب القائد وانت تحمل جهاز المخابرة اللاسلكي على ظهرك وارسالك المستمر يعرضك للخطورة القصوى وأن أجهزة الرصد المعادي تستمكن جهازك بسهولة”.
يأتي الجواب منه (خليها على الله)، والله أخاف أن اسمع جملة من الآمر تجرحني أو يقول ها سلوان تخاف، سبحان الله بقى سلوان يخوض غمار الموت حتى توقفت حرب الثماني سنوات، ولكونه من مدينتي تعاهدنا على أن نلتقي كل فترة زمنية .
وطوت الأيام صفحاتها ولم نلتق، وفي أحد الأيام وأنا في سيارة أجرة شاهدت سلوان المسيحي يمشي على الرصيف طلبت من السائق التوقف فورا، ونزلت مسرعا احتضنت سلوان وقبلته كعادة كل اهل العراق، شاهدت برودة في رد فعله. قلت له :
سلوان ماعرفتني؟
أجاب، والدموع تترقرق في عينيه: كيف لا اعرفك انت أخي فلان. قلت: ما الذي جرى لك؟
أجاب: لا أدري.
ثم أدار ظهره وانصرف. بقيت متحيرا، ذهبت إلى منطقة سكناه وسألت أهل الحوانيت عنه، وكان معروفا للجميع، فقالوا ان هذا المسكين منذ أن تسرح من الجيش نراه يخرج صباح كل يوم يمشي ويمشي إلى ما بعد الظهر، ثم يعود لبيته لا يكلم أحدا، هذا مثل بسيط جدا لإنسان خرج من الحرب، فكيف ولدينا مليون رجل خرجوا من الحروب يسيرون على أقدامهم وفكرهم وهواجسهم معلقة في تلك الأيام المشؤومة وارتداداتها ، لعن الله الحروب ولعن مَن اوقدها، ولعن من أعان عليها، الرحمة والخلود لكل الأرواح المظلومة التي سلبت