لم يكن مفاجئاً هذا الأنحياز الواضح في التغطية الأعلامية الغربية وبالذات الأميركية تجاه مجزرة غزة.كما لم يكن مفاجئاً أيضاً هذا الأنحياز الغربي الرسمي(لأسرائيل)التي أستثمرت لعقود طويلة في الأعلام والمال والسياسة،وبمختلف الأتجاهات للترويج لعلامتها التجارية المتفوقة على أعدائها الفلسطينيين. لكن الجديد هذه المرة كان ذلك الرد الفوري والقوي للأعلام والسياسة في أميركا والغرب تجاه هجوم حماس في السابع من أوكتوبر. كما كانت هناك ردود فعل رسمية وأعلامية قوية تجاه أي وسيلة أعلام أو شخص يحاول أبداء أي تعاطف مع الفلسطينيين حتى ولو لأسباب أنسانية،وحتى لو نأى بنفسه عن حماس وهجومها. أدى ذلك الى تعبئة رأي عام أمريكي متعاطف بوضوح مع أسرائيل. فعلى الرغم من أن نسبة من يتعاطفون مع الفلسطينيين في بداية هذه السنة بحسب أستطلاع مؤسسة كالوب الأميركية كانت 49بالمئة مقابل 38 بالمئة فقط ممن يتعاطفون مع الأسرائيليين،الا أن هذه النسبة أنقلبت في الأستطلاع الذي أجرته مجلة الأيكونومست بعد أسبوع واحد من هجوم حماس لتصبح نسبة من يتعاطفون مع الأسرائيليين 48بالمئة مقابل 10بالمئة فقط يتعاطفون مع الفلسطينيين وهناك 23بالمئة يتعاطفون مع الأثنين. وتقفز نسبة التعاطف مع أسرائيل بين كبار السن الأميركان(أكبر من 65 سنة) لتصل الى 62بالمئة حسب نفس الأستطلاع.
الرأي العام
هذا الأنقلاب (الفوري أو اللحظي) في الرأي العام الأمريكي جعل 70بالمئة من الأميركان يبررون الرد العسكري الأسرائيلي تجاه الفلسطينيين حسب أستطلاع شبكة CNN . لذلك وجدنا هذه التغطية المنحازة (أبتداءً) تجاه المذابح التي ترتكبها أسرائيل بحق أطفال ونساء وشيوخ غزة. لكن عدم قدرة الآلة الأعلامية المتعاطفة مع الصهيونية على السيطرة على مشاهد المجازر الدموية والدمار الهائل والمعاناة الأنسانية في غزة بدأ يقلب المعادلة كما تشير الى ذلك آخر أرقام الرأي العام الأمريكي. أن من المؤكد أن الحرب في غزة باتت أكثر المواضيع التي تشغل الأميركان حيث 69بالمئة يتلبعونها ويهتمون بها،وهذه نسبة نادرة الحدوث في الرأي العام الأمريكي. وبدأنا نشهد ما يمكن أن أسمّيه بالأنقلاب الناعم في الرأي العام الأمريكي. فمقارنة بآخر عدوان أسرائيلي على غزة عام 2021 ،أزدادت نسبة الديموقراطيين ممن يتعاطفون مع الفلسطينيين بمقدار 18 نقطة،مثلما أزدادت بين جمهور الجمهوريين بنسبة 12 نقطة بحسب أستطلاع كالوب. وفي الأستطلاع الذي أجرته شبكة سي بي أس CBS الأمريكية قبل أقل من أسبوع فأن 66بالمئة من الناخبين المحتملين باتوا يطالبون بوقف فوري لأطلاق النار،و 57بالمئة يطالبون أمريكا بأيصال مساعدات أنسانية لغزة. الأهم من ذلك أن شرائح مهمة من المجتمع الأمريكي بدت منحازة تماماً للموقف الفلسطيني. فنسبة الشباب تحت 30 سنة الذين يتعاطفون مع أسرائيل (الآن) هي 35بالمئة فقط. وتقل بين السود لتبلغ 24بالمئة فقط و36بالمئة بين الأميركان من أصول أسبانية. كما أن 34بالمئة فقط من الديموقراطيين يتعاطفون مع أسرائيل رغم أن النسبة تقفز الى 73بالمئة بين الجمهوريين. أن نسبة الأميركان الذين يقرّون طريقة أدارة بايدن في التعامل مع الأزمة باتت منخفضة(41بالمئة)فقط. كما أن 58بالمئة من الأميركان يعارضون أي تورط عسكري أمريكي في هذا النزاع. وبات 53بالمئة من الديموقراطيين يعارضون أرسال مساعدات عسكرية أمريكية لأسرائيل. أن من الواضح للمتابعين للشأن الأمريكي أن هناك موقف أمريكي جديد بدأ يتبلور نتيجة أستمرار الحرب وتداعياتها الأنسانية والأقتصادية والعسكرية.هذا الموقف لا يقتصر على الرأي العام،بل حتى الرأي لدى صناع القرار هناك.لقد أجرت أحدى المنظمات اليسارية الديموقراطية ما مجموعه 103 ألف أتصال مع أعضاء الكونغرس وممثليهم لحثهم للضغط على أسرائيل لوقف أطلاق النار. كما صدرت وثيقة موقعة من 400 موظف مسلم ويهودي يعملون في الكونغرس للمطالبة بوقف أطلاق النار. على أثر ذلك أصدرت مجموعة من أعضاء الكونغرس البارزين مثل كورتز وبومان وكوري بوش مطالبات علنية بوقف أطلاق النار.
كتابة منشور
في نفس الوقت فأن وزير الخارجية بلنكن أضطر لكتابة منشور لموظفيه يطالبهم فيه بالهدوء وأنه يتفهم ما يشعرون به بعد أن أستقال أحد الدبلوماسيين المعروفين أحتجاجاً على الأنحياز الأمريكي لأسرائيل وبعدما أنتشرت أخبار عن تململ كثير من موظفي الخارجية الأمريكية من طريقة تعامل أدارتهم المنحازة لأسرائيل في هذه الأزمة.مع هذا كله فيجب عدم التوهم أن هناك أنقلاب شامل في الرأي العام فمازالت أسرائيل هي الطفلة المدللة في السياسة الأميركية. وما زال اللوبي الصهيوني قوي ومؤثر هناك. وخلال الأيام الماضية تمت ممارسة ضغوط على أدارات الجامعات الأميركية الكبرى مثل هارفارد لتقف بوضوح أكبر مع أسرائيل. لا بل أن أحد كبار الممولين في هارفارد (أسرائيلي أمريكي) قد أستقال من مجلس أمنائها أحتجاجاً على سياسة الجامعة غير المنحازة بشكل أكبر لأسرائيل. يمكن القول أنه على المدى القصير يمكن للأنحياز لأسرائيل في أميركا أن يبقى واضحاً. لكن كل الأرقام تشير الى تآكل واضح ومستمر في تأييد الرأي العام الأمريكي لأسرائيل وهو ما سينعكس بلا شك على الرأي السياسي الأمريكي في المديين المتوسط والبعيد. أكثر من ذلك فأن الأنقسامات في أوساط المنظمات اليهودية الأميركية والتي بات قسم منها معارض بشدة للموقف الأسرائيلي صارت واضحة جداً وهي ستضيف بلا شك تعقيدات أكبر على أي محاولة لترميم الرأي المساند لأسرائيل في أميركا بعد الضربة التي تعرض وما زال يتعرض لها ذلك الرأي مع أمتداد مدة المعاناة الأنسانية للفلسطينيين.