تستمر التحضيرات لإقامة انتخابات مجالس المحافظات في آخر السنة الحالية 2023 بحسب موعدها المعلن رسميا، وبغض النظر عن:
– امكانية اجراؤها في موعدها المحدد او تأجيلها الى موعد آخر.
– مدى شرعية اعادة المجالس (واركز على الشرعية الشعبية)، بعد ان تم التعبير شعبيا عن الرغبة في إلغائها، وتم تعليقها لاكثر من سنة.
– الكلام الذي يحمل الكثير من الحقيقة حول حجم الفساد فيها (مع الاحترام والتقدير للشرفاء ونظيفي اليد).
– حجم الكلف الاضافية التي ترتبها على الدولة مقابل المردود الذي يتحقق منها.
– حجم ونوع المشاركة التي ستشهدها، ومدى شفافية الانتخابات ونزاهتها.
– نوع المرشحين الذين سوف يفوزون فيها.
فإن ما نتحدث عنه في هذا المقال ينظر الى زاوية مختلفة.

تسمى نظائر هذه الانتخابات في الكثير من دول العالم بالانتخابات البلدية، وتشير بهذا الى كونها انتخابات تتعلق بالبلديات والخدمة مع وجود تجارب عالمية تستعمل ما يشابه ما تم اقراره في دستورنا من كونها مجالس محلية، تنتج ما يسمى حكومات محلية، وهو تعبير عن جهاز ادارة المحافظة، وقد اعطيت هذه المجالس صلاحيات تشريعية في حدود المحافظة، فضلا عن صلاحياتها الرقابية، وبعد المطالبات الواسعة باللامركزية الادارية تم نقل عدد كبير من صلاحيات الوزارات الى ما يسمى بالحكومات المحلية، حيث وقعت مشاكل وملابسات كثيرة، ولم تنجح التجرية، واعيد ربط الدوائر بوزاراتها من جديد مركزيا.

ان سبب كون الهوية الوطنية مسألة حساسة الى هذا الحد في العراق، هو انها تشارك في خلق الصراع العرقي والمذهبي بدلا من العمل على تماسك الشعب المكون لهذا البلد. كما ان هذه المسألة هامة أيضا لانها تعني ان اي محاولة لتشكيل – أو فرض – هوية وطنية قد تكون لها تبعات سياسية، من قبيل الحاجة الى اعادة ترسيم الحدود الجغرافية او استبدال تركيبة النظم السياسية والدول. الهوية الوطنية هامة لان نظام العالم الجديد أقيم أساسا على تشكيل الدول القومية، والهوية المميز الرئيس لولاء وانتماء الفرد. ولغرض الحفاظ على النظام والسلم في العالم وتنمية ولاء المرء لبلده، من الهام بالنسبة إلى الدولة ان تعتبر شرعية وان تكون قادرة على تنمية شعور الانتماء عند مواطينها.

تعاني الهوية الوطنية العراقية منذ لحظات تاسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 والى لحظتنا الحاضرة تحديات، تختلف وجهات النظر حول اسبابها ومصدرها، ولكن محل الاتفاق، ان هذه الهوية لا تزال تعاني من اختلالات عميقة في بنيتها المعرفية والسياسية لجهة طبيعة الصياغة التي قدمت لها عبر اشكال ونماذج الحكم المختلفة، وقد ساهمت مرحلة ما بعد 2003 التي اسست لنظام الحكم القائم على اساس المكونات في زيادة صدوع هذه الهوية.

ومع ان جهودا عظيما وظروفا كثيرة وفرصا اكبر، اتاحت المجال للعمل على ترميم هذه الصدوع والانطلاق بتمثلات سياسية وثقافية واجتماعية عابرة للفواصل والحواجز وعاكسة للوحدة العراقية ومؤمنة بفكرة الامة العراقية إلا ان منابع الاختلالات ومصادر التصدع، لا تزال تغذي سمومها في جسد هذه الهوية، وما ان تأتي حادثة محل خلاف حتى يتبدى اثرها مباشرة الى جسد الهوية وقدرتها على التماسك.

يفترض بمجالس المحافظات ( وحسب الفلسفة التي اقيمت لاجلها)، انها تبلور اشخاصا ذوي خبرة ودراية، يتلمسون حاجات مناطقهم بشكل ادق ويراقبون انجاز الاعمال بوضع اقرب، وهو ما يدور في فلك رعاية الخصوصية المحلية في التنمية والبناء، ويزيد من مؤسسات الرقابة، ويخفف من الشمولية والمركزية الصارمة عبر المشاركة المحلية في شؤون مجتمعاتهم، وهي بهذا التعبير حالة ايجابية وصحية، لكن الخطير في المسألة يكمن في أمرين احدهما في طول الآخر:
– الاول يتمثل في كون خارطة القوى المتنافسة على مجالس المحافظات هي ذاتها او تشبه الى حد كبير الخارطة التي تنافست علي مجلس النواب.
– يعتمد خطاب الكثير من القوائم والمرشحين على مقولة (حقوق المكون).

ان فكرة حقوق المكونات سواء كانت في خطاب مجلس النواب او مجلس المحافظات هي بالضد من تماسك الهوية الوطنية التي تدعو الى ان تكون المواطنة بغض النظر عن اي تمييز هي المسطرة التي يتم على اساسها النظر الى حاجات الافراد في مختلف المجتمعات.

لا يقف توظيف المشاعر من اجل الكسب الانتخابي في الانتخابات المرتقبة، عند هذا الحد، بل يتم عبر العزف على الوتر المذهبي والقومي والتفاوت المناطقي وغيرهن من الجوانب التي تؤدي بشكل مباشر الى المزيد من الاختلالات في بنية الهوية الوطنية الموحدة.

ان إلزام المتنافسين في هذه الانتخابات بالعودة الى مضمون فلسفتها المتعلق بالتنافس على تقديم الخدمة لا يكفي في ظل الواقع العراقي، بل ينبغي ان يكون في قلب كل مشروع وبرنامج لمرشح او مرشحة او جهة ما يعزز الهوية الوطنية، ويصحح نظر بعض المجتمع السياسي في التفريق ما بين الخصوصيات المحلية والقضايا الوطنية المركزية، وهو ما يتطلب احضار عالي المستوى لمستوجبات بناء ودعم الهوية الوطنية في ضمير وعقل وارادة كل الذين ينخرطون في هذه الانتخابات.

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *