. ما اصدق الروائي الاديب الاسباني ميغيل دي ثيربانتس سابيدرا المشهور بروايته المعروفة لدينا نحن العرب ب” الدونكيخوت دي لا مانشا” Don Quijote de la Mancha، حين صور لنا احسن تصوير محاربة الانسان للشياطين في محاربة الدونكيخوت الرجل الضخم الطويل القامة للطواحين الهوائية بأسلحة متهالكة حيث إنه كان قد ظنها شياطين تقوم بنشر الشر في العالم. تصوير بليغ للفكر التنويري الذي ساد حينئذ لترشيد الفكر الانساني من اجل تجاوز سوداوية و بعد و شيطنة الفكر الكنسي المحرف آنذاك الذي كان يحَجِّر الفكر الانساني حتى لا يطير متجاوزا كل العقبات التي كانت تكبله.
الفكر التنويري هذا، سبقه مثله في الاسلام لم يقم احد بتسميته، ارتضينا اطلاق اسم “الفكر التقريبي” عليه، استمدادا من التنظير القرآني لذلك، حيث رمز الكتاب الكريم لمثل هذا المعنى بالملائكة المقربين و هي رمزية بليغة تنبه الى استعمال كل الوسائل النورانية الايجابية التي تجعل فكر المسلم يتجاوز بقربه الفكري من كل ظاهرة تواجهه في سيره الحضاري حتى يعيها بشكل جيد و يتجاوز بذلك كل العقبات الفكرية التي تريد ان تبعده و تشيطنه عن مقصوده.
رمزية “الملائكية و الشيطنة” في الاسلام رمزية بليغة و عميقة جدا، لا يفهمها الا من تقرب في سماوات القراءة المعراجية للكتاب الكريم، و طار بعيدا من شيطنة او بعد الافكار الهدامة عن فهم المقاصد الحكيمة للمقدس. لقد حاز التنظير القرآني كل سبق في نظره التقربي الملائكي لكل رمزية تنويرية أتى بها فلاسفة الانوار، من أمثال ثيربانتيس التي تعتبر روايته هاته التي ابتدأنا بها مقالنا هذا نقلة معرفية عالية من زمن الحضيض الفكري الى زمن الرمزية الراقية في الرواية الحديثة.
لم يتجاوز التنظير القرآني فكر ثيربانتس وحده بل تجاوز سبقا كل فلاسفة الانوار الفرنسيين و الانجليز من أمثال فولطير و جون لوك، لانهم بالرغم من انهم استطاعوا تجاوز عقبات فكرية كنسية الا انهم سقطوا في النقيض تماما حيث هربوا من أسر افكار ظلامية كنيسة محرفة الى سوداوية فكر تنويري إلحادي يلغي كل ما هو ديني بتاتا، وهو ما سقط فيه المسلمون أنفسهم بعدم فهمهم لمقاصد الدين حيث انتقلوا من ظلام فكر جاهلي الى سوداوية شيطنة بُعد فكر متحجر، في حين أنهم إنما طولبوا في الكتاب الحكيم بالتوسل بفكر تقريبي ملائكي يتجاوز بهم كل العقبات بل و يعرج بهم في سموات الوعي عروجا الى المقدس اللامتناهي و حرية السباحة في بحر الاطلاق كما يسميه الصوفية منهم الذين لم يفهموا كما ينبغي في التاريخ الاسلامي و لم يكن سواهم منظروا هذا الفكر التقريبي الملائكي الذي نرمي إليه.
ان كل توسل للتقرب من الظواهر بجند الفكر النوراني الذي يرمز له المقدس بالملائكي انما هو محاربة لجند الفكر الظلماني الذي يبعد الانسان ليس فقط عن التقرب الى الله بل يبعده و يشيطنه عن فهم ليس فقط اخيه في الانسانية بل و في فهمه حتي لنفسه هو هو، ان التوسل ببعيد عن اي ظاهرة لفهمها لهو عين الجهل، حيث ان التقرب من الظواهر و الكائنات هو ما يجعلنا نفهمها اكثر، و من ثم نستثمر الايجابي منها، لذلك فما احوجنا اليوم ان نتقرب اكثر من انفسنا لفهم اوعى و ان نتقرب من اخواننا في الانسانية و نبتعد عن كل شيطنة و بعيد في افكارنا ابعدنا عن بعضنا البعض بل و ابعد الانسان عن نفسه، في حين ان هذا الأخير انما هو مطالب بفكر تقريبي ملائكي يقربه من نفسه اولا و من اخيه الانسان و من يتقرب للمقدس، و كلما فهم الانسان نفسه و ترقى في ذلك و ووعى جميع خصوصيات الاجتماع الانساني كلما ابتعد عن التطاحنات و الحروب و الويلات التي يتخبط فيها الكائن البشري اليوم و هو ثمرة شجرة الانسانية.