في سوق الشورجة العريق وبين جامع الخلفاء ومرقد الشيخ النوبختي السفير الرابع للإمام المهدي (ْع) ، على بعد 100 متر فقط عن كنيسة أم الأحزان للكلدان ، بجوار كنيسة مريم العذراء للسريان الكاثوليك التي هي في طور الهدم ، تتوسد كنيسة اللاتين التربة البغدادية منذ قرابة قرن ونصف بكل أمن وسلام وتعايش مع بقية العراقيين. وتسمى بكنيسة السيدة العذراء للآباء الكرملين ، والكرمل جبل بفلسطين ، حيث نشأت هذه الجماعة المسيحية ، وانتشرت في العالم ، ولها في العراق خصوصية.
في بغداد توجد (٧٤) كنيسة تتوزع علي جانبي الكرخ والرصافة ، وتتبع لقرابة (١١) طائفة مسيحية متواجدة في العراق مثل الكلدان والسريان والأرمن والأقباط والانكليكانيين . وتتوزع الكنائس المسيحية في أغلب المحلات السكنية وخاصة في المناطق التي يسكنها مواطنون مسيحيون مثل المنصور والكرادة وبغداد الجديدة والدورة وزيونة وشارع فلسطين.
كنيسة اللاتين
تزامناً مع بناء القشلة ، أنشئت الكنيسة عام ١٨٧١ وافتتحت رسمياً باسم (كنيسة القديس يوسف) بعد عمل استغرق خمس سنوات. إذ بدأ البناء فيها عام ١٨٦٦ وانتهى عام ١٨٧١. ويذكر الرحالة الهولندي تينكو اينهولت ، الذي زار العراق عام ١٨٦٦-١٨٨٦٧ ، ان الاب ماري جوزيف ومعاونيه من القساوسة والرهبان كانوا من أحب الناس له في بغداد وكان يكثر المجالسة معهم طيلة فترة إقامته في بغداد .
بنيت الكنيسة على مكان كنيسة سابقة . وتم تصميمها على شكل صليب متناظر الأبعاد من الشمال والجنوب الجغرافي ، وموقع المذبح شرقاً ، والباب الرئيس غرباً.
في عام ١٩١٧ تعرضت الكنيسة للحرق جزئياً من قبل الأتراك ، وكانوا قد استخدموها كمستشفى حتى انسحابهم من بغداد عام ١٩١٧ . وفي عام ١٩٢٠ تم ترميم الكنيسة .
في عام ١٩٥٦ قامت أمانة بغداد باستملاك الكنيسة ، وأغلقتها عام ١٩٦٦ . وفي عام ١٩٧٦ أعطيت الكنيسة مؤقتاً إلى طائفة الأقباط المصريين الذين قدموا مع الهجرة المصرية إلى العراق بتشجيع من النظام البعثي. بقيت الكنيسة بيد الأقباط مدة ٣٣ عاماً مجاملة للمصريين ، حتى غادرها الأقباط عام ٢٠٠٩ بعد أن بنوا كاتدرائية الأقباط الأرثوذكس في بغداد الجديدة. تركوها في حالة يرثى لها من الإهمال والتداعي في جدرانها ، وتحولت المدرسة الملحقة بها ومحل سكن الآباء الأوائل إلى خرائب وأنقاض. كما قام الأقباط بإجراء تغييرات في الكنيسة وحسب طقوسهم الكنسية. فأقاموا المذبح (منضدة القداس) في وسط الكنيسة يتقدمه ستار فاصل بين المذبح والمصلين ، وتعلوه صور تلاميذ المسيح.
على الرغم من أن المسيحيين من أبناء الطائفة اللاتينية لا يشكلون سوى جزءاً صغيراً من مسيحيي العراق، إلا أنهم في اتصال وثيق مع المؤمنين الكاثوليك من الطوائف الكلدانية والسريانية الكاثوليكية والأرمنية واليونانية الكاثوليكية. مما لا شك فيه أن الكلدان يمثلون غالبية المسيحيين في العراق، وفي آخر إحصائية لعام 1987 كان عددهم ( 750000 ) شخصاً ، مقابل ( 300000 ) آشورياً (كنيسة المشرق وكنيسة المشرق القديمة).
ومع ذكر جميع الطوائف، كان مسيحيو العراق يمثلون 8 ٪ من سكان البلاد. بعد سقوط الموصل في حزيران ٢٠١٤ تعرض المسيحيون هناك إلى عمليات تطهير ديني من قبل تنظيم داعش ، وهدمت وخربت كنائسهم. وحدث تغيير ديموغرافي الذي طال جميع الطوائف. يقال أنه هناك أقل من ( 400000) من الكلدانيين في العراق وهم منتشرون بين بغداد وكردستان وسهل نينوى والبصرة.
في عام 1235م، أرسل البابا غريغوري التاسع (بابا ١٢٢٧- ١٢٤١م) أحد رفاق القديس دومينيك إلى الشرق الذي وصل إلى بلاد ما بين النهرين في عام 1237م، ويقال إنه ذهب إلى بغداد في عهد الخليفة المستنصر بالله (حكم ١٢٢٦- ١٢٤٢ م).
في السادس من أيلول عام 1632م، تم إنشاء أبرشية بغداد اللاتينية، في الوقت الذي سيطرت فيه بلاد فارس على المنطقة وكانت أصفهان مركزها الروحي. في هذه المدينة التابعة للإمبراطورية الفارسية، طورت القوى الأوروبية والكرسي الرسولي أنشطتها الدبلوماسية والدينية تحت سيطرة الحكام الفرس وخاصةً في عهد الشاه عباس الأول (1587 – 1629م). كان جان ثاديوس أول أسقف في أصفهان وعُيّن تيموتيو بيريز من الرهبنة الكرملية الإسبانية كمساعد له في بغداد، لكن لم يتمكن أيا منهما من الفوز بالكرسي الأسقفي. كان برنارد دي سانت تيريز (جان دوفال) من الرهبنة الكرملية أول أسقف لاتيني وصل بالفعل إلى بغداد. في عام 1642م ، احتفل بالقداس الإلهي قبل عودته إلى فرنسا.
و في عام 1820 ، تم تسمية بيير ألكسندر كوبيري (1770 – 1831) أسقف اللاتين في بابل. كان له دور أساسي في دعم اتحاد الكنيسة الكلدانية مع روما. عين قنصلاً لفرنسا في بغداد في عام 1823 ، وحافظ على المراسلات الدبلوماسية والدينية الوفيرة. توفي في عام 1831 تاركاً ذكرى لأسقف رائع ورجل يهتم بالمحرومين خلال أوقات المجاعة والطاعون: “رجل مقدس” كما وصفه رئيس أساقفة اللاتين الحالي في بغداد، اللبناني الأصل جان بنيامين سليمان.
قصة الجنود البولنديين
في عام 1942-1943، احتفل الجنود البولنديون المتمركزون في بغداد بالقداس الإلهي ضمن هذه الكنيسة مع الراعي المرافق لهم، المطران جوزيف غاولينا. وكانوا ضمن قوات الحلفاء وبريطانيا قد مكثوا لفترة في العراق.
وكذكرى لذلك الحضور وضع لوح معدني مثبت على إحدى جدران الكنيسة. كتب عليه بالبولندية والإنكليزية ما يأتي ( الجنود البولونيون صلوا في هذه الكنيسة في الأعوام بين ١٩٤٢ و ١٩٤٣ مع مطرانهم جوزيف غاولينا Joseph Gawlina).
كما توجد تحته لوحة برونزية تمثل السيدة مريم تحمل السيد المسيح (ع) بجانب جندي بولوني يرتدي خوذة ويحمل بندقية تعلوها حربة . وأعلى اللوحة نسر يمثل الشعار البولوني ، وفوقه تاريخ ١٩٤٢ و ١٩٤٣. وتحت الجندي قوس عليه كتابة أجنبية وأسفل اللوحة كتابة تخلد ذكرى تواجد الجنود البولونيين في الكنيسة لحضور القداس.
وصف الكنيسة
في ١١ شباط ٢٠٢٣ قمنا بزيارة كنيسة اللاتين ، ووصلناها بعد اجتياز عربات الكسبة المتجمعة في الشوارع المزدحمة التي تحيط بالكنيسة.
البناية قديمة البناء تعلوها مظاهر الإهمال ، فجدرانها تعاني من الرطوبة والشقوق وتقشر طلائها ، وأرضيتها وسلالمها بحجة إلى ترميم كبير. الكنيسة بلا أجهزة تكييف ، دخلناها شتاء والجو بارد فيها كأنما في خارجها. كما أن المياه الجوفية تظهر في بعض الأماكن وقريباً من مقابر الآباء والراهبات.
من ابرز معالم الكنيسة هي القبة العالية على ارتفاع (٣٢) مترا ، وهي مبنية من الطابوق. تستند القبة على جدار دائري يضم إثني عشر شباكاً على عدد حواريي السيد المسيح (ع). وتستخدم الشباك لإنارة قاعة الكنيسة حيث تقام الصلوات والقداسات. من الداخل يستند السقف على أقواس تنقل الأحمال إلى الجدران. وتوجد شبابيك عالية للإضاءة ، وأخرى مغلقة بشكل رازونة داخل الجدار، توضع فيها تماثيل وإيقونات وغيرها. وتعاني الجدران من الرطوبة والتقشر وتساقط أجزاء من الجص المغلف للطابوق.
ويوجد برج عال يضم الناقوس المستخدم في أوقات الصلوات ومراسم الجنائز المقامة داخل الكنيسة. يعود تاريخ صنع الناقوس إلى عام ١٨٩٤ كما مثبت عليه. البرج مبني من الطابوق دون تغليف، وينتصب الناقوس على مساند حديدية ترتكز على جانبي البرج. ويعلو الناقوس سقف مقبب من الطابوق العقادة.
في وسط القاعة يوجد المذبح، وهو المنضدة التي يقف خلفها المطران وهو يتلو الصلوات أو تقديم الخبز والخمر للحاضرين. وعلى المذبح مجموعة من الصلبان منحوت عليها تمثال السيد المسيج في وضع المصلوب. كما توجد منصة خشبية توضع عليها الكتب لتلاوة الأدعية والقداسات منها . كما توجد مناضد على صور وتماثيل للسيدة العذراء والسيد المسيح، وكذلك صور لبعض القديسين والآباء الكرملين. في وسط القاعة تصطف عدد من المصاطب الخشبية التي يعلوها الغبار. ويفصل سياج قصير بين المذبح والمصاطب ، وفيه باب لدخول أعضاء الكادر الكنسي من رجال وشباب بعضهم يحمل صلبان ومباخر ومرشات ماء وهم يرتدون ملابس خاصة بالقداسات المسيحية.
مثل كثير من الكنائس لا يقتصر زوارها على المسيحيين بل يؤمها المسلمون وخاصة النساء اللاتي يأتين للنذور وإشعال الشموع والبخور طلباً للمراد من السيدة مريم عليها السلام. كما يأتيها زوار ومصلون أجانب من فرنسا وأمريكا وسويسرا.
تضم الكنيسة مقبرة قديمة دفن فيها آباء ورهبان وراهبات ، عراقيين وغير عراقيين. القبور على شكل لحد مدفون في جداد، يضم ثلاث طوابق. وكل قبر عليه لوحة من الرخام مكتوب عليها اسم المدفون ومنصبه وتاريخ ميلاده وتاريخ وفاته.
كما توجد قبور منفردة تحيط ببناء الكنيسة من الخارج ، وداخل سياج مبنى الكنيسة.
توجد هناك مدرسة خلف الكنيسة وتابعة لها. تعدّ هذه المدرسة من المدارس المسيحية الأجنبية المتقدمة في بغداد والتي اهتمت كثيراً في تربية طلابها ورفع مستواهم العلمي والديني والأخلاقي، وهي تابعة لطائفة اللاتين الكاثوليك التي أشرفت على إدارتها هيئة الآباء الكرمليين في بغداد.
تقع هذه المدرسة في محلة رأس القرية عكد الكنائس (عكد النصارى) مقابل جامع الخلفاء قرب سوق الغزل في بغداد، شغلت بنايتها المرقمة (1/178) بجوار كنيسة اللاتين التي كانت تحيطها بالجانبين الشرقي والغربي، كما يحيطها من الخلف دير للآباء الكرمليين.
تأُسست مدرسة القديس يوسف اللاتينية عام 1737 واستمرت في أداء رسالتها التعليمية حتى عام 1914 بعد أن أغلقت إبان الحرب العالمية الأولى وحل في بنايتها المكتب السلطاني العثماني، إذ تم الاستيلاء على جميع محتوياتها من أدوات مدرسية وأثاث وألواح وكتب وخرائط .
وفي فترة الإدارة البريطانية للعراق 1918، تم افتتاح المدرسة ثانيةً لقبول الطلاب فيها كمدرسة ابتدائية نهارية للبنين، وأخذ مديرها جوزيف كركجي بتهيئة أدوات مدرسية جديدة لتقوم مقام التي فقدت وتلفت عمداً . وفي عام 1920 قام المسؤولون على إدارتها والإشراف عليها من قبل الآباء الكرمليين بترشيح نخبة من الأساتذة الأكفاء لهيئتها التدريسية، وعُيّن الأب جان سعيد الكرملي مديراً لها فأعاد في مدة قصيرة سمعة المدرسة وشهرتها الأولى بالجهود الكثيرة التي بذلها في سبيل تقدمها ورقيها.
ابرز المدفونون في الكنيسة
من أبرز المدفونين في كنيسة اللاتين هو العلامة اللغوي أنستاس ماري الكرملي . فعلى قبر منفرد كُتبت هذه الأبيات من الشعر: (لطمت صدرها عليك لغات ،
في بوادي الأعراب يوم مماتك
وعروس اللغات قد شقّت الجيب
وقامت تنوح فوق رفاتك
وهو من أشهر علماء العراق المختصين باللغة العربية وعلومها وبالتاريخ. ويُقرن مع قامات لغوية عالية مثل الدكتور مصطفى جواد والدكتور سالم الآلوسي والدكتور مهدي المخزومي والدكتور إبراهيم الوائلي والدكتور فاضل السامرائي وغيرهم كثيرين.
هو بطرس جبرائيل يوسف عواد، وهو الاسم الحقيقي لأنستاس الكرملي، وهو رجل دين مسيحي ولغوي عربي، ولد في آب 1866، وتوفي في كانون الثاني 1947.
ولد الكرملي من أب لبناني قَدِم من ( بكفيا ) إحدى قرى لبنان إلى بغداد في منتصف القرن التاسع عشر، ليتزوج من فتاة عراقية بغداد تدعى مريم وهي والدة الكرملي ، أنجب منها خمسة بنين وأربع بنات، وكان بطرس الرابع بين أولاده.
نشأ الأب أنستاس في العاصمة العراقية وتلقى تعليمه فيها، وتحديدًا في مدرسة الآباء الكرمليين التي درّس فيها لاحقًا، قبل أن يغادر بغداد إلى بيروت ليعمل مدرسًا في كلية الآباء اليسوعيين، وقد تعلم أيضًا اللغات اللاتينية واليونانية والفرنسية فضلًا عن العربية، وقد عاد إلى العراق حتى وفاته.
وعُرف عن الكرملي تمسكه باللغة العربية ودعواته لعدم التساهل مع الخروج عن اللغة، وضرورة التصحيح اللغوي والحفاظ على لغة العرب. فهو أحد مؤسسي هذه الثقافة في سياق مشروعها التأسيسي، بعد الاحتلال الإنجليزي للعراق عام 1914، وفي سياق الحفاظ على عروبة هذه الثقافة وسط مهيمنات الاغتراب، والموروثة من ركاكة (العثمنة التركية) ومن الأنكلوفونية التي حاول الاستعمار الإنجليزي التبشير بها. علاقة الكرملي باللغة العربية علاقة وجودية، فرغم معرفته بكثيرٍ من اللغات الأخرى (اللاتينية، واليونانية، والسريانية، والإنجليزية، والفرنسية، والمندائية، والتركية، والفارسية) فإن حرصه على اللغة العربية كان من منطلق هوياتي وتاريخي، ومن منطلق ثقافي لساني
.
في عام ١٩١٧ أصدر الكرملي جريدة (العرب) والتي أثارت حوله جدلاً كثيراً، بسبب ارتباط هذه الجريدة بالاحتلال الإنجليزي. ورغم العنوان الذي حملته الجريدة، بأنها (جريدة سياسية إخبارية تاريخية عمرانية، عربية المبدأ، والغرض من إنشائها في بغداد عرب للعرب) فإن رئاسة تحرير المجلة من قبل المس بيل الشخصية الإنجليزية المعروفة، أسبغت عليها طابعاً خاصاً.
حظي الكرملي بتقدير كثير من الهيئات والمجامع العلمية واللغوية، فانتخب عضوًا في (مجمع المشرقيات الألماني) سنة 1329 هـ/1911م و(المجمع العلمي العربي) في دمشق سنة 1339 هـ/1920م واختير ضمن أول عشرين عالمًا ولغويًا من مصر وأوروبا والعالم العربي.
وفاته
بعد عودتِه إلى بغدادَ اشتدَّ عليه المرضُ وانتقلَ على أثرِه إلى المستشفى التعليميِّ ببغداد، ولكنه لم يَلبثْ به طويلًا، وتُوفِّي عامَ ١٩٤٧م.
رثاه شعراء عدة، منهم أحمد حامد الصراف ومما قاله:
وعشنا وعاشت في الدهور بلادنا جوامعنا في جنبهنَّ الكنائس
وسوف يعيش الشعب في وحدة له عمائمنا في جنبهنَّ القلانس