نقف اليوم على مفترق الطرق، بعضنا يحدوه الأمل أن يدخل العالم الرقمي بجدارة؛ كي يحصل على مفتاح التغيير لتطوير حياته ومستقبله، وبعضنا الآخر يستشعر الخوف من أن يُقذَف به خارج حضارة اليوم، أو تُسحَق آمالُه وعقيدته وقيَمه. وفي كلا الحالتين علينا أن ندرك أن التغيير أمرٌ مهم للمستقبل، بل هو واقعٌ لا مفر منه؛ إذ لا يوجد ثمة سبيل للخلاص منه، ولو اجتمعت عليه القبائل والطوائف والعقائد.
لم يُشغَل العالم في كل الأزمان بظاهرة مثلما شُغِل بظاهرة الإعلام والرَّقمنة اليوم، حيث صارت همّاً مُزمناً لدى الإنسان؛ فلم ينفع معه إسبرين صداع الرأس لتهدئتها، ولا أدوية المسكنات لتسكين مُنغِّصات الحياة.
صرنا قبائل رقمية؛ يغزو بعضنا بعضاً بالمتناظرات الرقمية والإشارات المتموِّجة، حيث الحياة صارت سلسلة من الأرقام الصفرية، بعد أن كانت غزواتنا بالسيوف والخناجر والرماح والمناجل والمطارق!
طوفان رقمي لا ينتهي أبداً، ولا استراحة لعقل مُتخم بالمعلومات! كل منجزات البشر توقفت إلى حدٍّ معين، عدا هذا المنجز الرقمي الذي أتانا، ولا يريد أن يغادرنا إلا بعد أن يجعلنا أسرَى في مملكته، ويُحدِث رجّةً رقمية في عقولنا؛ من أجل أن نستفيق على حقائق العلم والحياة؛ «عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَالَمْ يَعْلَمْ».
أم المشاكل اليوم، أنك تعيش في عصر التفاهات والسماجة والرقاعة والبلهاء، وجنون الأفكار المستلهِمة للبلادة، والغريزة المريضة بجاه الشهرة والسلطة والنرجسية. فما تجلبه لنا التقنيات نعمة لا نقمة، كما نظن ؛ فلقد أطلَّت برأسها علينا طارحةً عدداً كبيراً من ألغاز الوجود، وحلَّت بالخوارزميات خطوط الحياة المتشابكة، ووحَّدتنا إنسانيّاً ومكانيّاً وزمانيّاً، لكن البشر استخدموها لصنع قنابل الموت المفزعة؛ حيث زرعوا ألغام الأفكار التافهة في بيوتنا وشوارعنا، ووأدُوا الجمال في النفوس، وأعادونا إلى عصر القبائل العقيم، والحروب والتوحُّش والتنمُّر!
والسر في ذلك، كما يقول رجال العلم: أن وسائل الإعلام الرقمية زادت من قُدرة الأفراد على التحرك النفساني، أو تخيُّل أنفسهم في مواقف لم يجربوها، وفي أماكن غير الأماكن التي اعتادوا رؤيتها، كما عوَّدت أذهانهم على تصوُّرِ تجارب أوسع من تجاربهم المباشرة والمحدودة، وعلى تخيُّل مناطق لم يشاهدوها من قبل.
لذلك نشهد انتهاكاتٍ خطيرةً في صناعة المعلومة واستثمارها سلبيّاً من قِبَل الشباب؛ مما يعكس (مزاجية) و(مودة) لصورة ذهنيّة نمطيّة مشتركة في طرح الرؤى، وعدم يقين للواقع والأفكار، وفراغ فكري وسلوكي، وثقب معرفي وأخلاقي، ويأس قاتل من المستقبل.
نرى (زعاطيط) رقمية تصنع لنا محتوى مهووساً بالنرجسيّة والتفاهات، وتتبارى في صناعة المحتوى الهابط، والعبث بالمعلومة، واللعب بمضامينها، وتحويل هذا العبث إلى منهج حياة! تأخذ أبعاداً اجتماعيّة ونفسيّة تضر بالمجتمع وقوانينه وأعرافه وقيَمِه.
لا شيء ينبئ بنهاية فوضى المعلومات، وانحسار موجة التسلية، واختفاء فيالق الحمقى في المستقبل القريب. فهناك هوس بشري لاستهلاك صناعة الترندات المسيئة، والتلذذ بمتعة الصور البليدة. إنها مفارقات ضياع البشر بين مَن يمارس هواية زراعة الوهم، ومَن يفتح (باب الحديقة كي يخرجَ الياسمين إلى الطرقات نهاراً جميلاً)، كما يقول محمود درويش.
والخوف هو الاستسلام لسلطة «البلهاء» في الشبكة العنكبوتية مما سيزيد التفاهة في المجتمع، وتكون عاملاً جديداً لإثارة الحساسيات الاجتماعية، والتشهير بالبشر، والمساس بحياتهم الخاصة، وإيقاظ الإشاعات السوداء، وتوطين الفساد والأخلاقيات المنهارة، وبدون أي قواعد ضابطة.
صحيحٌ أن الشباب الذين نراهم على منصات التواصل الاجتماعي، ليسوا من قبيلة «الهيمبا» أو من «اليانومامي» في غابات الأمازون؛ وإنما هم من جماعات الحياة الجديدة الذين ظهروا وهم يحملون معهم «حلم الشهرة الرقمية»، وانفجار التطلعات والتوقعات المتفائلة، فاصطدموا بالواقع وتناقضاته وأمراضه؛ حيث انتشار المظالم واليأس والانكسارات في دول وظيفتها إنتاج الفقر، ونفايات الفساد، والابتذال والغيبيات والكوارث والحروب!
وخطورة اليوم في مجال رقمنه التواصل: البلهاء هم سر نجاح أغلب وسائل الإعلام، حيث افترستها بلاهة ما يسوقه مجانين السفاهة في المنصات والمواقع. صار لهم صوتاً مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل والأوسكار. والأغلب هناك من يستغلها ويستثمرها، ويلعب بها وبنا!
هذه الوسائل، صنعت شريحة مجتمعية جديدة من مشاهير العالم يُطلق عليها (فاشينستات) بعيداً عن العمل الإعلامي التقليدي؛ تعتمد على يوميات الإنسان، ومواهب متواضعة خُلقت من قاع الأميّة المجتمعيّة؛ فأسست ثقافة مُعتلَّة بأنماط الميوعة والابتذال والقرف، وجنون الأفعال غير السويّة التي تقلب الدنيا وما فيها ومَن فيها، حيث الملايين من المعجبين والمعجبات!
صارت أيامنا هلوسةً عقلية، وقماماتٍ رقمية. اختفى فيها العقل و(القَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ)، حيث لا نسمع فيها إلا لجعجعة أهبل مريض بجذام البلادة، وخرابيش رقمية تفتقد العقل والبصيرة، وسطوع مجنون مبتكر للخزعبلات البصرية، ونهيق حمير رقمي يضج بصوت المُنكرات. وترندات نغرق فيها ومعها.
يا لها من مفارقات! أن تعيش في عصر رقمي يمنحك رُقيّاً بالمنجزات التقنيّة، ويساعدك على تغيير جيناتك الحياتيّة إلى الأفضل، بينما تستفحل التفاهة بقوة بيننا، لتقتل آخر ما تبقى من جمال الحياة، وحيث يعيش بينك أيضاً (مزاعط) التفاهات والخزعبلات والسخافات، وهلوسات السحر والجن والغيبيّات!
حقاً إنها دنيا رقمية مقلوبة! زرعُها هو أشواك التفاهات الرقمية، ومفكرها أسفلها، وجاهلها عاليها، وحامي ديارها حراميها!