على الرغم من إن إنتخابات مجالس المحافظات في العراق تعد إستحقاقا دستوريا طبقا للمادة ( 122 – رابعا ) ، إلا إن ما يشبه الإستفتاء الشعبي خلال إحتجاجات وإنتفاضة تشرين 2019 ، قد أجبر البرلمان على تعليقها تحت الضغط الشعبي الهائل آنذاك، والذي كان من تداعياته أيضا إسقاط حكومة السيد عادل عبدالمهدي .
إلا إن الإتفاق السياسي بين الكتل الفائزة بعد إنسحاب التيار الصدري في أيلول عام 2022، والذي إنبثقت من رحمه الحكومة الحالية، تمخض في أحد بنوده عن إعادة إجراء إنتخابات مجالس المحافظات، على الرغم من الشعور الشعبي العام بعدم جدواها وبأنها ستكون كسابقاتها حلقة إضافية من حلقات الترهل والفساد الحكومي وأيضا بوابة لهدر أموال الشعب ، إلا إن إصرار أحزاب السلطة للإستحواذ على مزيد من مفاصل ومؤسسات الدولة وترسيخ أقدامها في أصغر الوحدات الإدارية للمحافظات لكسب مزيد من التمويل والدعم والتأثير، وهي فرصة لن تتكرر للإنفراد بالسلطة بعد إنسحب التيار الصدري وهو المنافس القوي صاحب القاعدة الشعبية الواسعة في محافظات الوسط والجنوب، دفعها لإجراء هذه الإنتخابات في موعدها ، رغم العزوف الشعبي والمقاطعة الواسعة التي قاربت نسبة 80 بالمئة .
لكن ما هي الدلالات الخطيرة لإجراء هذه الإنتخابات رغم كل هذه الثغرات والإحتقانات الجسيمة التي ترافقها، ولماذا هذا الإصرار من قبل الطبقة السياسية الحاكمة على التسرع في إجرائها رغم المقاطعة الشعبية الواسعة لها، في حين كان الأحرى الوقوف وإعادة الحسابات لتفكيك الأزمات المتراكمة والتوقف عن سياسة ترحيلها، ويمكن في هذا السياق إثارة سؤال غاية في الأهمية : هل من شأن إجراء هذه الإنتخابات، الإسهام في إستقرار العراق في ظل الظروف المحلية والدولية الراهنة، أم سيساهم بمزيد من التدهور والتوتر ؟ ومن خلال حسابات موضوعية بعيدة عن الترويج الإعلامي والسطحي ، إن الوضع في العراق في طريقه لمزيد من التخبط والفوضى ويتطلب التوقف عن سياسة الهروب للأمام وضرورة البحث عناصر ومحركات ومولدات التدهوروالإنحدار والفساد، التي يعاني منها العراق منذ عقود والتي تراكمت بحيث باتت تخنق حياة الفرد والدولة على حد سواء .
على ضوء تطورات طبيعة النظام السياسي فإن الإحتقان السياسي جراء إعتماد نظام المحاصصة في الحكم ، قد تحول من إنقسام (عمودي ثلاثي) إلى إنقسامات (إفقية متعددة) داخل التصنيف الثلاثي السائد منذ عام 2003 ( الطائفي- العرقي -المذهبي )مما ينذر بحالة خطيرة من التشضي، تغذيها دوافع القبلية الضيقة ، والشحن الديني ومافيات الفساد مع تدني خطير في الوعي السياسي والمجتمعي وتفشي الأمية والفقر وإنعدام الخدمات الأساسية الصحية والتعليمية والبنية التحتية كالكهرباء والماء وشبكات الصرف الصحي وكذلك خروج قطاعات كاملة من الخدمة كالزراعة والصناعة .
ففي شمال العراق تسعى الأحزاب الحاكمة والمهيمنة بما يشبه الإمارات أو الإقطاعيات العائلية إلى إستمرار العلاقة « الكونفيدرالية « مع المركز والتصرف علنا، إقتصاديا وأمنيا وديبلوماسيا ، بأن العراق دولة وكردستان دولة أخرى .
لكن الإحتقان السياسي الأشد خطورة الذي قد يتطور الى مسارات أخرى ، الذي قد تعمقها نتائج هذه الإنتخابات هي تلك التي تجري في المحافظات الغربية من خلال التنافس الصراعي الذي وصل الى حد كسر العظم والتشهير والذي بات يتجاوز الخلاف السياسي والعشائري ، وتتمثل خطورته في إحتمالات تكرار مشهد 2012 من خلال إستعانة بعض أطراف الصراع في المناطق الغربية بقوى «التطرف الكامنة» والتي تحظى بحماية ورعاية أمريكية في بعض مناطق صحراء الأنبار لاسيما وإن إعادة الفوضى في هذه المناطق يجري إستثماره في كل مرة لصالح قوى محلية وإقليمية ودولية .
المعادلة في وسط وجنوب العراق تعاني من عدم توازن وإختلال نتيجة غياب طرف مهم في فيها ، وبذلك فإنها تتخذ منحى آخر من خلال إمتلاك ألأطراف المتنافسة على السلطة والثروة لأجنحة مسلحة قوية ، فعلى الرغم من فوز التيار الصدري في الانتخابات النيابية السابقة التي جرت في أكتوبر 2021 بأغلبية المقاعد ( 73 مقعد ) والتي كانت تؤهله لتشكيل حكومة أغلبية سياسية، إلا إن شرط (الثلث المعطل) الذي فرضته المحكمة الاتحادية «حول» إنتصار التيار الى خسارة، لاسيما بعد محاولاته سواء من خلال الاحتجاج السلمي أو السيطرة على البرلمان بالقوة والتي باءت بالفشل جعلته ينزوي لصالح منافسيه في قوى الإطار التي شكلت الحكومة وإستأثرت بكافة مفاصل الدولة الرئيسية ، لتأتي إنتخابات مجالس المحافظات والتي لم يكتفي التيار الصدري بالدعوة الى مقاطعتها بل حاول بشتى الوسائل الحيلولة دون إجرائها . هنا يكمن الخطر في إحتمالات زيادة الإحتقان نتيجة هذه الفجوة ، ففي الوقت الذي تحاول قوى الإطار من خلال إجراء انتخابات مجالس المحافظات الإستحواذ على أصغر مفاصل الخدمات الملتصقة بالمواطن الأمر الذي قد يسحب من التيار الصدري الكثير من قواعده الشعبية الباحثة عن الخدمات والتعيين والمصالح وهو الأمر الذي تدرك خطورة مآلاته المستقبلية جيدا قيادات التيار الصدري وقوى الإطار على حد سواء .
على ضوء هذه الرؤية فإن العراق مفتوح لمزيد من إحتمالات التشضي والإنقسام ، في حين هناك حاجة حقيقية لتجسير الفجوات البينية سواء بين القوى السياسية الحاكمة من جهة، وكذلك الفجوة الكبيرة بين الشعب وبين هذه الطبقة المجردة من الدعم الشعبي من جهة أخرى، يأتي كل ذلك في ظل نأي وصمت المرجعية الدينية بنفسها عن هذا الواقع السياسي الفاسد المشبع بالمصالح الحزبية والشخصية الضيقة البعيدة عن مصالح البلاد العليا ، وفي ظل عدم وجود مرجعية سياسية وطنية تدعو الجميع للوقوف وإعادة تعريف مصالح الشعب العليا، وكذلك الإيمان بحاجة العراق دولة ومجتمع للتماسك بقوة وتغليب المصلحة العليا على المصالح الضيقة، فإن جميع الإحتمالات واردة في ظل الظروف البالغة الحساسية الراهنة نتيجة تسارع الإستقطابات الإقليمية والدولية الحادة التي تعصف بالمنطقة والعالم جراء الحرب المستعرة في أوكرانيا وغزة.
مدير مركز دجلة للدراسات والتخطيط الإستراتيجي