قيل قديماً أن اليأس هو إحدى الراحتين،أما الثانية فهي الموت…لكني أقول أن هناك راحتين أخريين أدمنهما العراقيين:الأولى،أو الثالثة أذا أخذنا اليأس والموت بالحسبان، هي(الجلد) . فكم يحب العراقيون جلد أنفسهم،ليس جسدياً وحسياً فقط، بل معنوياً قبل ذلك. وكم يحبون وصم أنفسهم بأهل الشقاق والنفاق،وكم يحبون قول اننا شعب متخلف(ما تصيرله چاره)،وكم يحبون شتم ذواتهم وتحميلها أخطاء سياسييهم.هاهو منشور لكاتب مجهول الكنية ينتشر كالنار في هشيم مواقع التواصل العراقية يقرّع العراقيين ويؤنبهم،بل ويغتال ثقافتهم لأنهم كما يقول(عبيد المرجعية وخدم الفرس…وأبناء عشائر شيوخها هتليه ومنحطين) والى آخر مافي قاموس الشتيمة من بذاءة واغتيال للذات العراقية وثقافتنا الاجتماعية. لم أستغرب من أنتشار ما كتبه شلش، فقد سبق أن شاهدت مثل ذلك مرات ومرات،لكني أستغربت من حجم الراحة التي أستشعرتُها في قلوب العراقيين وهم يتداولون المنشور معجبين به.
ايذاء النفس
تؤكد البحوث النفسية أن الناس تلجأ لأيذاء نفسها حينما يمرّون بحالة توتر نفسي شديد فيؤذون أنفسهم ويجلدوها ليشعروا بالراحة.أوأنهم بهذا الألم والجلد للذات يشعرون بأمكانيتهم للسيطرة على محيطهم المضطرب من خلال تاوصول الى أسباب الخلل كما يعتقدون.بذلك فأنت لا تحتاج الى أكثر من أجترار جلد الذات لتشعر بأنك قد حزرتَ،فأوجزت، فأبلغتَ…»اللهم فأشهد». وبما أننا شعب «أولاد ستين كلب»كما يقول عادل أمام فأننا «نستاهل» ما نلقى وبالتالي لا حاجة للتغيير أو معالجة الخطأ ! فليس الخطأ بسياسيينا الذين أستثمروا في عذاباتنا التاريخية، أو في مشاعرنا الدينية أو في ظروفنا «الطينية». ليس الخطأ في الجاني وأنما في المجني عليه(لأنه منحط وسافل ومجرم تماماً كما يبرر الصهاينة قتلهم للفلسطينيين لأنهم حيوانات بشرية). ليس الخطأ في من يغتصِب بل الخطأ كل الخطأ في المُغتصَب!! وبما أن الأمر كذلك فلا تعاقبوا المغتصِب ولا الجاني أو اللص أو المجرم،بل عاقبوا أنفسكم. والمشكلة في هذا المنطق أنه لا يحث على معاقبة النفس من خلال أصلاحها أو تغييرها،بل ينفّس عن ذلك من خلال جلد الذات ومعاقبتها! أنه لا يسعى لأفهام العراقيين بأن بأمكانهم أن يصلحوا ما قاموا به من خطأ،بل يريحهم بجلد ذاتهم والأبقاء على جلّاديهم الحقيقيين يتحكمون بهم. في كتابي»ثقافة التصلب:منظور جديد لفهم المجتمع العراقي» شرحت الفرق بين مفهوم الخطأ عند المجتمعات ذات الثقافة الصلبة (كالعراق) وبين مفهوم الخطأ عند المجتمعات ذات الثقافة الرخوة أو المرنة. فالخطأ عند الأولى لا يغتفر ويجب معاقبته بشدة(من خلال جلد الذات وأغتيالها مثلما فعل شلش)،أما الخطأ في الثقافات الرخوة فهو منتَج بشري عادي يجب أن نتعلم منه ولا ننتحر بسببه. أذ كل المجتمعات تخطىء في خياراتها لكن الحية منها تصحح الخيارات ولا تكتفي بجلد الذات.أما «الراحة» الرابعة،فلطالما كتبت عنها الا وهي «المؤامرة». تنتشر نظرية المؤامرة بشكل واسع بين العراقيين. وقد لاحظنا كيف تم تفسير كثير من الاحداث التي مر بها العراق سواء تاريخياً، أو حالياً بوجود المؤامرة.هناك ثلاث مجموعات رئيسة من الأسباب التي تفسر أنتشار نظرية المؤامرة.
الأولى شخصية وتتعلق بظاهرة نفسية تسمى بالإغلاق المعرفي cognitive closure والذي يعني الحاجة لفهم الظاهرة المعقدة. وبما إننا جميعاً (بخاصة الاقل تعليماً) نميل الى تقبل التعليلات السببية الواضحة والبسيطة والتي تتفق مع ما نؤمن به من معتقدات لذا فإن سردية المؤامرة والتي غالباً ما تكون سردية سببية وبسيطة تكون أسهل قبولاً من السرديات العلمية المعقدة والتي يصعب على ألبعض فهمها. لذا فالذين لا يحبون التفكير النقدي المعقد ويميلون للتفكير السببي المبسط غالباً ما يتجهون لتفسيرات المؤامرة لأنها تحقق لهم الراحة النفسية وتجنبهم التفكير المعقد. من هنا نتوقع انتشار تفسير المؤامرة كلما ازدادت الاحداث تعقيداً من جهة، وكلما كان الإنسان متعباً من شدة الظروف المعقدة التي تجابهه في حياته وهو ما يعانيه العراقيون حالياً. أما المجموعة الثانية من الاسباب (الوجودية existential) فهي ترتبط بوجور الإنسان وبقاءه. إن المعرفة السببية الواضحة تخدم حاجة الإنسان للشعور بالأمان والسلامة في بيئته، وشعوره إنه عارف بتلك البيئة وقادر على التحكم بها لضمان وجوده كفرد أو جماعة.
توفر البديل
فالأشخاص الذين يشعرون إنه ليست لديهم القدرة على السيطرة على حياتهم غالباً ما يلجأون للمؤامرة لأنها توفر لهم بديلاً سهلاً ومقبولاً لتفسير حالة الغموض والحيرة -وهي الحالة التي تميز العراق حالياً- التي يمرون بها. تتضمن المجموعة الثالثة من الاسباب(الاجتماعية) تلك الاسباب التي ترتبط لدوافع اجتماعية تتضمن الحاجة للانتماء الى جماعة والبروز فيها.أو الاحتفاظ بصورة إيجابية بين الجماعة. لقد وجد الباحثون مثلا إن نظريات المؤامرة تزيد من تقدير الذات والجماعة من خلال السماح بإلقاء اللوم على الاخرين. وبالتالي، يساعد تفسير المؤامرة في الحفاظ على صورة الذات والجماعة على إنها كفؤة وأخلاقية ولكن تم تخريبها من قبل الاخرين الاقوياء وعديمي الضمير. ووجدت أبحاث أخرى إن نظرية المؤامرة تزداد لدى الشعوب والجماعات التي تمتاز بانخفاض منسوب الثقة بينها وهي بالتالي تزيد من فجوة الثقة بالآخر وبمؤسسات الدولة والسياسيين عموماً. والعراق بسبب ما مر به من ظروف هو أقل الشعوب في العالم من حيث الثقة بالآخر»الذي ليس منا». بالتالي يوفر تفسير المؤامرة ليس فقط حاجزاً تجاه التشكيك بصحة ما تعتنقه الجماعة من معتقدات يجب تغييرها،بل أيضاً راحة نفسية للفرد لأعتقاده بأنه «أفهم» من الآخرين ومتمايز عنهم و»يلكفهه وهي طايره» و»لوتي» لا يمكن خداعه. بالتالي فهو لا يحتاج أن يعمل ويجد ليغير الواقع.ف»القضية مبيوعة» كما يعتقد فلماذا أذاً يتعب نفسه ويجهدها ما دامت هناك قوى عظمى وخارج السيطرة هي من تقرر مصيرنا!
فلنرتاح ونريح ونختار المؤامرة.
أن التفسيرات»الشلشية» هي تفسيرات «أفيونية» تريحنا في المدى المنظور لذا تجد الناس يجتروها كالقات،لكنها تفسيرات تدميرية للذات والمجتمع لن تؤدي الا الى مزيد من الألم ومزيد من الأفيون.
الشعوب التي تريد أن تنهض عليها أن تنشىء أجيالها ومجتمعاتها على أن الراحات الأربع (تمني الموت،واليأس،وجلد الذات، ونظرية المؤامرة) أنما هي دليل عجز الأنسان،وطريق أدمان الأدمان.