التحولات السياسية الكبرى تمثل جزءاً أساسياً من تاريخ البشرية، وقد شهدت العديد من الثورات والتغييرات الجذرية في الأنظمة الحاكمة عبر العصور. يمكن تقسيم هذه التحولات إلى ثلاث مراحل رئيسية هي: الاحتجاج، الفكر، والتحول. لقد شهدت الثورات التاريخية الكبرى مثل الثورة الإنجليزية، والثورة الأمريكية، والثورة الفرنسية، والثورة الروسية، والثورة الصينية، والثورة الإيرانية هذه الدورات المتكررة.
في المرحلة الأولى، يكون الشعب عادةً على استعداد للتحرك والاحتجاج ضد النظام القائم. يتمثل الاحتجاج في تصاعد الضغوط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتزايد الانتهاكات لحقوق الإنسان والحريات الأساسية. يظهر الاحتجاج في شكل مظاهرات، إضرابات، وتحركات اجتماعية تصطف وراء مطالب محددة. تعتبر الثورة المسلحة شكلاً متقدمًا من الاحتجاج العنيف، الذي يمكن أن يوجهه الفصيل المتمرد بشكل مباشر ضد النظام الحاكم. مثال على ذلك هو الثورة الأمريكية في عام 1775 حيث قامت المستعمرات الأمريكية بعدة أعمال احتجاجية بما في ذلك مظاهرات نظمت ضد الضرائب البريطانية ومقاومة مسلحة ضد الجيش البريطاني.
في هذه الاثناء يقوم قادة الاحتجاج، سواء كانوا من المفكرين او الكتاب او رجال الدين او القادة الاجتماعيين، بانتاج فكر يسوّغ الاحتجاج والثورة ويقدم البديل، حيث يستفيدون من النقاش والدائرين، ويقومون بتوجيه النقد وتقييم النظام القائم. تحدث النقاشات المثيرة حول التغييرات المطلوبة، والنماذج السياسية والاقتصادية المحتملة. يمكن أن تنشأ حركات فكرية ومؤسسات تعليمية لنشر الوعي والتثقيف بشأن القضايا السياسية والاجتماعية. يلعب الصحفيون والكتاب والفلاسفة والمفكرون دوراً مهماً في تشكيل الفكر الجماعي وإثارة التساؤلات حول التغيرات المطلوبة. مثال على ذلك هو الثورة الفرنسية، حيث شهدت المجتمعات الفرنسية نقاشات مكثفة حول المسائل الفلسفية والسياسية قبل أن تنجح في إسقاط الحكم الملكي وتأسيس الجمهورية.
وأخيرًا، تأتي مرحلة التحول، حيث يسقط النظام القديم ويشهد الانتقال إلى نظام جديد. غالباً ما يكون لهذه المرحلة طابعٌ دموي بسبب الصراعات المسلحة والتدهور السياسي الشديد الذي يمكن أن يحدث خلالها. تظهر قيادات جديدة، وتُعاد بناء المؤسسات، وتشرّع قوانين جديدة، ويتم تشكيل الحكومة الجديدة لتمثل الإرادة الشعبية.
الثورات التاريخية تقدم الكثير من الأدلة التي تثبت هذه الدورة، كما اشرنا. على سبيل المثال، في الثورة الفرنسية، شهدت فرنسا موجة من الاحتجاجات الشعبية والثورات المتفرقة قبل التحول النهائي إلى نظام جديد. كما عرفت الثورة الأمريكية فترة طويلة من النقاشات الفكرية حول الحاجة لاستقلال البلاد عن الإمبراطورية البريطانية. وفي الثورة الإيرانية، شهدت إيران مظاهرات شعبية هائلة ضد نظام الشاه قبل سقوطه وتأسيس الجمهورية الإسلامية.
في الحالة العراقية التي شهدت ظهور الحركة الاسلامية وبخاصة حركة السيد محمد باقر الصدر يمكن ان نلاحظ ان الحركة بدأت بموقف احتجاجي هو “عدم تطبيق الاسلام” فنشأت الحركة للدعوة الى تطبيق الاسلام والعودة الى الشريعة الاسلامية. ونلاحظ ان هذا الموقف الاحتجاجي لم يكن ردا على حدث سياسي او اجتماعي مثل ثورة التنباك في ايران. وانما هو رد على موقف ديني- سياسي سبق ان ظهر في الغاء كمال اتاتورك للخلافة الاسلامية وكان من الردود التي احدثها هو تأسيس تنظيم الاخوان المسلمين بقيادة حسن البنا، وتنظيم حزب التحرير بقيادة محمد تقي النبهاني، وصولا الى تأسيس حزب الدعوة الاسلامية بقيادة محمد باقر الصدر واخرين. انتج رد الفعل الديني على الحدث الديني فكرا دينيا، بمعنى انه فكر يُعنى بالاسلام نفسه، وليس بالمجتمع او الدولة القائمين. وهكذا كان على سبيل المثال كتابا “فلسفتنا” و”اقتصادنا” ومقالات مجلة “الاضواء” ومثلها كتابات سيد قطب والنبهاني. وهي بمجملها كتابات لا تاريخية بمعنى انها مفصولة عن الزمان والمكان باستثناء كونها ردا على الغاء الخلافة العثمانية واقصاء الشريعة الاسلامية وردا ايضا على الشبهات حول الاسلام. وكان لهذا التوجه اثر كبير على تحديد نمط الثقافة الاسلامية في تلك الفترة.