كان بعض الباحثين في القرن الماضي يرون ان التشيع ذو منشأ فارسي. وقد اتضح خطأ هذا الرأي موخراً (1) . فالفرس كانو في الغالب من اهل السنة والجماعة وقد ضلوا على ذلك حتى القرن العاشر الهجري ونبغ من بينهم اكثر علماء السنة (2) وهم لم يتشيعوا الا قصراً على يد الدولة الصفوية.

ان التشيع نشأ بين القبائل العربية التي كانت تسكن في الكوفة ثم اخذ ينتشر بين اهل السواد اي بين الموالي الذين يسكنون المنطقة الرسوبية في العراق وقد كان التشيع في بداية أمرة لايختلف عن غيره من المذاهب الاسلامية الا في اتجاهه السياسي اذ كان مذهباً ثورياً يؤيد العلويين في ثورتهم على الدولة الاموية وعندما ظهرت الدولة العباسية، وقضت على الدولة الاموية، اعتبر ذلك في حينه انتصاراً للتشيع، فالعباسيوون كانو في العهد الاموي من الشيعة وكانو يشاركون ابناء عمهم العلويين في الثورة على الامويين، وقد وصف ابن خلدون الدولة العباسية بكونها دولة شيعية (3) ولكن تشيع هذه الدولة لم يستمر طويلاً فقد نشبه النزاع العنيف بين العباسيين والعلويين، انقسم الشيعة في العراق الى فرقتين احدهما التزمت جانب العباسيين وهي التي اطلق عليها اسم ( اهل السنة والجماعة)، والثانية التزمت جانب العلويين وهي التي ظلت متمسكة باسم الشيعة فبعد ما كانت هاتان الطائفتان فرقة واحدة في اول الامر اصبحتا مختلفتين في كثير من العقائد والطقوس وقد اخذ الاختلاف يزداد ويتراكم جيل بعد جيل، واشتد حدته بعد الاحتلال الانكلو-امريكي للعراق الذي فجرة هذا الاختلاف واشعل الفتنة بتقسيمه المجتمع الى مكونات ( شيعة – سنة – كرد واقليات اخرى ) وضمن ذلك في دستور 2005 وطبق تجسيده في الديمقراطية التوافقية ونظام المحاصصة الطائفية والاثنية المقيتة.

روح السلام

يشجب بعض المفكرين الاديان لانها في رأيهم تثير العداوات والخصام بين الناس ، نسي هؤلاء ان النزاع امر طبيعي في البشر ، فأذا لم يتنازع البشر بدافع التعصب الديني تنازعوا بدافع تعصب اخر، وليس من قصدنا هنا ان نفاضل بين مذهب التشيع ومذهب التسنن أو نبرهن أيهما أحق من الاخر أو اكثر قرباً الى روح الاسلام فهذا من اختصاص رجال الدين وعلماء الكلام وهم كانوا ولايزالون يتجادلون فيه من غير جدوى، يقول الدكتور علي الوردي فمقصدنا في هذا الصدد ان ندرس ذنيك المذهبين من حيث علاقة كل منهما بالمجتمع. وهذا موضوع مهم من مواضيع علم الاجتماع الحديث يسمى ( علم الاجتماع الديني) ويحدد العوامل التي ادت الى زيادة الفجوة والاختلاف بين التشيع والتسنن بمايلي :

1 – مورد الرزق الذي يعيش عليه رجال الدين في كل منهما ، فرجل الدين السني يعتمد في رزقه على الحكومة ، بينما زميله الشيعي يعتمد على العامة وهذا جعل كل منهما ينظر الى الحياة بمنظار مختلف عن منظار الاخر.

2 – تغلب على اهل السنة نزعة الطاعة للحكومة واحترام اوامرها فهم يعتقدون ان السلطان ظل الله في الارض وان طاعته طاعة الله وهم يستندون في ذلك على قوله تعالى (اطيعو الله ورسوله واولي الامر منكم) فأولو الامر يجب ان يطاعوا وان كانوا فساقاً او جائرون (4)

اما الشيعة فهم ينظرون الى الحكومة نظرة انتقاد واحتقار انهم يلتزمون (التقية) تجاهها ولكنهم لايحبون التقرب اليها او قبول اي عطاء او مرتب منها . ان تراثهم الثوري القديم جعلهم يفترضون في السلطان ان يكون كعلي ابن ابي طالب في عدله وزهده وحين يجدون السلطان غير قادر على ذلك يثلبونه ويستهينون به وهذا الذي حصل في انتفاضه تشرين عام 2019 التي عرت السياسييين الفاسدين والحكومات المحسوبة على الشيعة.

( يمكن القول ان الشيعة تخلصوا من ربقة الحكومة فوقعوا في ربقه العامة فرجال الدين منهم يعيشون على مايردهم من الزكاة والخمس ومايوصي لهم الاموات من ثلث اموالهم وغير ذلك وهذا امر له جانبه الحسن وجانبه السيء كأي امر اخر من امور الحياة البشريه) (5)

أ – الجانب الحسن

فقهاء الشيعة اكثر الناس دأباً في طلب العلوم الدينية واللغوية وفي التنافس عليها فهم لايعتمدون على مرتبات مخصصة لهم يأخذونها من الحكومة بل يعتمدون على مايردهم من الناس من اموال. والناس بطبعهم حريصون على اموالهم فهم لايعطونها الا لمن يثقون بعلمه وتقواه من الفقهاء ولهذا اصبح كل فقيه شيعي واثقاً بأن مصيره المعاشي والاجتماعي منوط بمبلغ تبحره في العلم والزهد عن الدنيا .

حلقات الدراسة

ومن يزور النجف يجد ذلك واضحاً فهذه المدينة تعد الان مركز التشيع في العالم الاسلامي كله حيث يجتمع فيها الفقهاء والطلاب من مختلف البلدان الاسلامية

ب – الجانب السيء

ان فقهاء الشيعة لم يسدو باب الاجتهاد في الفقه وحرية التفكير ومن يشهد حلقات الدراسة عندهم قد يعجب بما يجد فيها من مجالات فقهية عميقة، ولكن هذه الظاهرة لاتخلو من جانب سيء في الوقت نفسه والمعروف من فقهاء الشيعة لايتفلسفون الا في نطاق حلقاتهم الدراسية او مجالاتهم الخاصة بهم وهم قد يصلون بها الى مدى بعيد في حرية التفكير وسعة الاجتهاد ولكنهم لايستطيعون ان يعلنوا ذلك على العامه خشية ان يثور هؤلاء عليهم وينفضوا عنهم ان العامة بوجه عام ميالون للخرافة في شؤونهم الدينية.

وكثير مايبتدعون طقوساً وعقائد جديدة حسب مقتضيات ظروفهم وحاجاتهم النفسية والاجتماعية والملاحظ ان فقهاء الشيعة يدركون ذلك في اكثر الاحيان ولكنهم لايستطيعون ان يفعلوا شيئاً ازاءه فهم يخافون من العامة خوفاً شديداً ولايحبون معارضتهم في شيئاً الا قليلاً. اشار الى هذا السيد هبة الدين الشهرستاني في مجلة ( العلم ) التي كان يصدرها قبيل الحرب العالمية الاولى فقد كتب فيها مقالاً عنوانه ( علماؤنا والتجاهر بالحق ) جاء فيه (وأما في القرون الاخيرة فالسيطرة اضحت للرأي العام على رأي الاعلام.. فصار العالم والفقيه يتكلم من خوفه بين الطلاب غير مايتلطف به بين العوام وبالعكس ويختار في كتبه الاستدلالية غير مايفتي به من الوسائل العلمية ويستعمل في بيان الفتوى فنوناً من السياسة والمجاملة خوفاً من حياج العوام حتى انه بلغنا عن فقيه سأله احد السوقيين عن يهودي بكى على الحسين ( ع ) فوقعه دمعته على ثوبي ، هل نجس الثوب ام لا ؟ فا أجاب خوفاً منه ، ان جواب هذه المسأله عند الزهراء (ع) وسأل سوقي اخر فقيهاً عمن يشج رأسه للحسين (ع) فأجاب كذلك، الى غير ذلك لكن هذه الحاله تهدد الدين بانقراض معالمه واضمحلال اصوله ، لان جهال الامم يميلون من قله علمهم ونقص استعدادهم وضعف طبعهم الى الخرافات وبدع الاقوام والمنكرات فاذا سكت العلماء ولم يزجروهم او ساعدوهم على مشتهياتهم غلبت زوائد الدين على اصوله ، وبدعه على حقائقه حتى يمسي ذلك الدين شريعة وثنية همجية تهزأ بها الامم) (6)

الشيعة والتصوف

العامة ميالون الى ابتداع عقائد وطقوس دينية جديدة لايجوز ان نلومهم في ذلك فهم مضطرون اليه لكي يواجهو به الاخطار والمشاكل التي يعانونها في حياتهم ويبدو ان العامة على مختلف طوائفهم واديانهم متشابهون في هذا الفصل. فهم قد يختلفون في طراز عقائدهم وطقوسهم التي يبتدعونها انما هم لايختلفون من حيث الدافع الذي يحفزهم الى ابداعها ونجد ذلك واضحاً بالشيعة واهل السنة على حد سواء والواقع ان هناك تشابهاً غير قليل بين التشيع والتصوف من هذه الناحية.

يقول الدكتور علي الوردي ( من الامور التي لفتت نظري في مصر هو موسم زيارة (السيد البدوي) في طنطا يكاد لايختلف كثيراً عن موسم زيارة الحسين في كربلاء، وقد شهدت المتصوفة يحتفلون بمولد السيده زينب والسيد الحسين في القاهرة فيقومون بحلقات الذكر ويخرجون بالمواكب والرايات الى منوال مايشبه من بعض الوجوه مايفعله الشيعة في العراق احتفالاً بوفياه أمتهم )(7) وقد اشار ابن خلدون في مقدمته الى التشابه الموجود بين عقائد المتصوفة وعقائد الشيعة فيقول : ( وظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب ومعناه ، رأس العارفين يزعمون انه لايمكن ان يساويه احد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله اليه ثم يورث مقامه الاخر من اهل العرفان وهو بعينه ماتقول به الرافضه في توارث الائمة عندهم ثم قالوا بترتيب وجود الابدال بعد هذا القطب كما قال الشيعة في النقباء.

ثم جعلوا القطب لتعليم المعرفة بالله لانه رأس العارفين، وافردوه بذلك تشبيهاً بالامام في الظاهر وان يكون على وزانه في الباطن فتأمل ذلك في كلام هؤلاء المتصوفه في الفاطمي اي (المهدي المنتظر) وماشحنوا كتبهم في ذلك وانما هو مأخوذ من كلام الشيعة والرافضة ومذاهبهم في كتبهم ، والله يهدي الى الحق) (8)

ومن أشهر من انتقد المتصوف ( ابن تيميه) فهذا الرجل قاوم التصوف والتشيع معاً ودعا المسلمين الى العودة الى التعاليم الفطرية الاولى التي جاء بها الاسلام لكن رأيه لم يلق رواجاً الا في صحراء العرب بعد بضعة قرون من وفاته وذلك عندما ظهر محمد بن عبد الوهاب في منتصف القرن الثامن عشر يدعوا الى مثل مادعى اليه ( ابن تيمية)

اما في بقية الاقطار الاسلامية فقد ظل الناس كما كانوا ينحون منحى التصوف والتشيع حسب مقتضيات ظروفهم ( انهم يعانون في حياتهم شتى انواع الامراض والمظالم والمضايقات ، وهم اذن في حاجة الى مايساعدهم على مجابهتها او تحملها .

تركات التنافس بين العثمانيين والصفويين في العراق

قام الصفويون بدور في تاريخ التشيع وقد يصح ان نقول بأن الصفويين خدرو مذهب التشيع وروضوه فأزالو عنه النزعة الثورية التي كانت لاصقة به بالعهود السابقة وجعلوه مذهباً رسمياً لايختلف عن غيره من المذاهب الدينية الاخرى وبهذا دخل التشيع في طاحونة السلاطين فأضعفه الروح الوثابة التي بعثها فيه علي واولاده على توالي الاجيال

كان سلاطين الصفويين لايختلفون اختلافاً اساسياً عن السلاطين العثمانيين كلهم كانوا يعبدون الله وينهبون عباد الله ولم يكن الفرق بينهم الا ظاهرياً اذ كان جل همهم منصب على تشيد المساجد وعلى زخرفة جدرانها وتذهيب قبابها

يزور الشيعة قبر الحسين (ع) بمئات الالوف كل عام ثم يرجعون عن الزياره كما ذهبوا لم يفعلوا شيئاً غير النواح واللطم انهم اليوم ثوار خامدون فقد خدرهم السلاطين وحولوا السيوف التي كان يقاتلون بها الحكام قديماً الى سلاسل يضربون بها ظهورهم وحراباً يجرحون بها رؤوسهم. ان موسم الزياره في كربلاء يمكن تشبيهه بموسم الحج لكثرة الوافدين اليه ولكن الزياره الشيعية تختلف بعض الوجوه عن الحج اذ هي تحمل في بطنها بذرة الثورة الخامدة ومن يشهد هرج الزوار في كربلاء يدرك وراء ذلك خطر دفيناً) (9)

ماكو ولي الا علي نريد حاكم جعفري شعار رفعوه الشيعة وكثير ماينشدون بالخصال الممتازة التي اتصف بها علي ابن ابي طالب كالشجاعة والفصاحة والعدالة والزهد

في عام 2003 جاء الحاكم الشيعي على ظهر الدبابة الامريكية في احتلال العراق وبالتعاون الايراني تم اسقاط النظام وخلال عشرين عام مضت لم يجني الشعب العراقي من حكومات الفساد والفشل غير الخراب والدمار وسرقة اموال الدوله ومواردها فانقلب الشيعة على الحاكم الشيعي لانه غير قادر على ان يكون كعلي ابن ابي طالب في عدله وزهده لكن هذا الحاكم جابه الانتفاضة بالعنف والقوة المفرطة وسقط الالاف الشهداء والجرحى من ابناء الشعب وكالعادة كانت ( التقية ) حاضرة وجاءت كلمة المرجعية بحت اصواتنا وغلقت ابوابها بوجه السياسيين الفاسدين ، وطلب رجال الدين من الناس الدعاء بأن يعجل الله ( ظهور الامام المهدي المنتظر ) وزيدة جرعات التخدير للناس بمسوغ الحفاظ على المذهب.. نسي الجميع قوله تعالى ( لايغير الله بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )

الانتماء لتوحيد المذاهب

( تعلمت وأمنت بوحدة (المذاهب الاسلامية ) لاني شعرت بوجودها بعد احتلال العراق وعزوه ، بحيث ادى الاختلاف بين هذه المذاهب الى مجازر بشرية لايمكن ان يتصورها الانسان واصبح من الواجب على كل مثقف في جميع المذاهب الاسلامية العمل على استئصال الاختلاف بين تلك المذاهب من خلال ازاله الاختلافات القائمة بينها والتقريب في الاختلافات السياسية والتاريخية والنظرة الموحدة الى حوادث التاريخ والاصول والفروع والتقارب في التفكير والنظرة والتصورات العلمية والتاريخية والاجتماعية والعمل على الانتماء لتوحيد المذاهب بدلاً من الانتماء الطائفي واني أرى اغلب المثقفين في كل المذاهب الاسلامية يميلون ان يكونوا مسلمين قبل ان يكونوا لهذا المذهب او ذاك وان يصيروا انتمائهم فكرياً وعاطفياً بالامة الاسلامية اكثر من انتمائهم الى الميادين والاصول الخاصة بالطائفة، ان هذا الاتجاه يوحد الميول الاجتماعية العاطفية والوطنية والقومية والطبقية والايديولوجية ويوحد القضايا المشتركة لان الاسلام حقيقة واحدة يفهمها كل انسان وفق تصوراته التي تؤدي الى وحدة المسلمين او اختلافهم) (10)

الهوامش

1 – ادم متز (الحضارة الاسلامية في القران الرابع الهجري)

ترجمة محمد عبد الهادي ابو ريدة – ج 1 ص96

2 – ابن خلدون (المقدمة) ص543 – 545

3 – ابن خلدون ( كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر .. ) ج3 ص369

4 – ابو يوسف ( كتاب الخراج ) ص10 – 11

5 – علي الوردي (وعاظ السلاطين) ص494

6 – مجلة العلم ، السنة الثانية ص266 – 267

7 – علي الوردي – دراسة في طبيعة المجتمع العراقي – ص263

8 – ابن خلدون – المقدمة – تحقيق عبد الواحد وافي – ج3 ص1074 – 1075

9 – علي الوردي – وعاظ السلاطين ص249 – 252

10 – خالد محسن الروضان – كتاب ال روضان في رحلة الزمان – ص131

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *