في بدء كلّ سنة جديدة قادمة يتسارع البشر، وربما من دون شعور أو تحفيز، للتعبير عن مختلف المتمنيات بالدعوات بسنة مباركة ومختلفة عن سابقاتها. سنة جديدة تتأرجح بها التوقعات و والمسميات اعتمادًا على تحليلات وتسريبات ونشريات مقروءة ومسموعة عبر صخب الأثير على قنوات كثيرة، ما شاءت القدرات البشرية إنشاءَها ورفدها بكلّ ما يسعى إليه صانعوها وداعموها وناشروها ومعدّو برامجها على اختلاف مشارب انتماءاتهم. سنة جديدة قد لا يحقّقُ متنبؤوها بشيءٍ جديدٍ على صعيد شخصيّ لأنها تمضي كسابقاتها بحساب اثني عشر شهرًا وثلاثمائة وخمسة وستين يومًا، علمًا أنّ السنة القادمة 2024 هي سنة كبيسة، وفيها يختلف عدد أيام شهر شباط مزيدًا عليه يومًا واحدًا، كما يشير التقويم لعدد أيامه. وكالعادة، وبالرغم من تنوع الدعوات الطيبة التي يتسابق فيها مختلف البشر للإعراب فيها عن تمنيات ترسم ملامح أيامها مختلفة عن سابقاتها غير المجدية بل التقليدية والتعيسة في الكثير منها.
اطلاق العنان
إلاّ أنّه لا حيلة لنا جميعًا ومن دون شعور حينما نطلق العنان لأفكارنا وأمنياتنا بأن تكون سنة مختلفة في الطلبات والمكاسب والمحفزات كسرًا لتنبؤات الأبراج التي أصبحت مادة دسمة لأصحابها ومروّجيها، حتى الدخلاء على علومها وتقنياتها.
على أية حال، هذا واقعنا جميعًا. لا بدّأن نحتفل بسهرة آخر أيام السنة التي سبقتها ونزيد من صخبنا ودعواتنا كي تتلاقى مع أمنيات الغير وآمالهم ولكي تكون سنة خير وبركة وسلام وأمانٍ للبشرية جميعًا ونعمة للمكسورين وسلوانًا للمفجوعين بفقد أحبائهم ونجاةً للغارقين في مشاكل أسرية واجتماعية لا حصرَلها للبعض بل للكثير من البشر. فلتحيا إذن جميع الأمنيات والطلبات والتوسلات إلى رب السماوات والأرض كي يُنزل مطر نعماته على جميع البشر ويصالحَ مَن فقدوا الوئام والتفاهم لأتفه الأسباب، ويغرس الرحمة في قلوب الساسة والزعامات الحزبية وأتباع الولاءات الدخيلة وكلّ الجهات المتسلطة الحائدة عن طريق الحق والغارقة في وحل الفساد وأشكال اللصوصية ونهب المال العام الذي هو من حق شعوب البلدان المنهوبة، ومنها بلدنا الغاطس في رذيلة الفساد والسرقات واستغفال البسطاء والسذج والبؤساء من شعب وادي الرافدين، ويعيد الوطن لأهله وناسه وهيبته وسيادته وقدراته الحقيقية، وما أكثرها!
قد تأخذنا الغيرة أكثر عندما نعبّر عن أسفنا لما بدر منّا من أخطاء أو سلوكيات أو تصرفات غير واقعية في معالجة ثغرة ما، أو في النعبير عن حرصٍ أكثر إزاء موضوعٍ أو قضية لم تنل ما تستحقه من متابعة جادّة ورصينة كادت أن توقعنا في ورطة أو مصيبة، أو ربما وقعنا فيها فعلاً وواقعًا. فهذا حال البشر ضعيفي الحيلة أحيانًا. لكن التجربة وما فيها من عبرٍ ودروسٍ وقرارات قد تكون خير بادرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذُه في سلوكياتنا للسنة الجديدة. ولتكنْ كذلك! وكما أنّ فصول السنة تتغير وفق مقاسات الأنواء وقراءات الأحداث وتحليلات الغارقين في بحور التجارب والتوقعات، هكذا نحن البشر ننتغير بل ونتقلّب في المواقف. والفائز هو مَن يتغلّب على الصعاب، ويغوص في أعماق بحار العلاقات مميِّزًا بين الصديق والمتلوِّن بحسب المصالح والمغانم، وداعمًا لكلّ خطوة إنسانية تُنجب ولادات جديدة مترعة بِسِمات المحبة والأمنيات الطيبة المقرونة بحبِّ الآخر المختلف في لونه وجنسه ومهنته ودينه ومذهبه وفكره، وليس بحسب الأهواء والمصالح والعلاقات الفاسدة التي تُغضب الخالق وخليقتَه. تلكم هي السعادة الحقيقية التي ينبغي أن يتصف بها البشر إزاءَ نظرائهم في الإنسانية، وليس بالاصطفاف السلبيّ بحسب الدين والمذهب والعشيرة. فلم تعد مقولة «أنصرْ أخاكَ ظالمًا أم مظلومًا» تنفع في سياق النظام الإنساني الشامل الذي جعلَ العالم قريةً مصغرة، بل ينبغي أن تحلَّ محلَّها «أحببْ قريبكَ مثل نفسك»، واحترمْ الآخر مهما اختلف عنك في دينه وفكره ومذهبه وتوجهه السياسي والاجتماعي والثقافي. فلكّلٍ ما زرعه الخالق حريةً في إدارة شؤونه وتوجيهها وفق سلوكياته وتصوّراته، مهما كانت. فهو صاحب الشأن في نيل رضا الله والبشر أو في هبوطه الدركات السفلى من المهانة والعداوة والحقارة لينال الجزاء العادل في خاتمة الأيام.
في الأخير، لن ينفع الإنسان غيرُ حبِّه ووفائه وحمده لله خالقه وسعيه لإسعاد البشر، جميع البشر، إخوته في الإنسانية وفي الوطن وفي المدينة والقرية حيث يسكن ويعيش ويتفاعل ويتفاءل بالخير ليجد كلّ شيء يسيرًا أمام عينيه.
ليكن عام 2024، سنة خيرٍ وبركة ونعمة للبشر والأمم وشعوب الأرض جيمعًا، وبردًا وسلامًا وإيذانًا بمتغيّرات حقيقية على الصعيد الوطني في العراق وفي المنظومة السياسية العرجاء التي سمعنا ومازلنا نسمع قرب الفرج من سلبيات سنواتٍ عجافٍ لأكثر من عشرين عامًا من خسارة في البشر والمال والسمعة والحضارة والثقافة والعلم والخدمات الآدمية والمجتمع بعد سيادة أزلام الطائفية وسراق المال العام وأبطال سرقات القرن للمشهد منذ السقوط الدرامي بفعل الغازي الأمريكي السافل.
بلد الحضارات
وما أكثرها! فهل نستحق ويستحق العراق بلد الحضارات والقيم وتعدّد الإتنيات والأديان والمذاهب أن ينالَ قسطَه من راحة البال والاستقرار السياسي والسلام والأمان المفقود وزوال أدوات الغمّ والهمّ وأشكال التبعية للغير، مهما كانت هوية هذه الأخيرة، كي تستعيد حديقتُه الغنّاء رونقَها وبهاءَها ورفاهتَها بعيدًا عن جور الظالمين والدخلاء والغرباء والفاسدين؟ يارب، إسمعْ دعوات محبيك وافتقدْ طلبات ساعيك وأنرْ طريق عبيدك وانشر الخير والسعادة والمحبة بين الإخوة جميعًا، إخوة الوطن والإنسانية! أللّهمّ آمين.