في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الأيام‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬تقوم‭ ‬الشركات‭ ‬ومراكز‭ ‬التسوّق‭ ‬الكبيرة‭ ‬بجرد‭ ‬سنوي‭ ‬لصادراتها‭ ‬ومنتجاتها‭ ‬وأرباحها‭ ‬وحتى‭ ‬معدل‭ ‬خساراتها،‭ ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬ذلك‭ ‬الجرد‭ ‬تحدَّد‭ ‬إمكانياتها‭ ‬للسنة‭ ‬المقبلة،‭ ‬فهناك‭ ‬شركات‭ ‬تحقق‭ ‬أرباحا‭ ‬كبيرة‭ ‬تصل‭ ‬بمنافعها‭ ‬إلى‭ ‬العاملين‭ ‬فيها،‭ ‬وأخرى‭ ‬تتعرَّضُ‭ ‬إلى‭ ‬خسارات‭ ‬فادحة‭ ‬تجبرها‭ ‬على‭ ‬تقليص‭ ‬الأيدي‭ ‬العاملة‭ ‬وتفرضُ‭ ‬تقشُّفاً‭ ‬على‭ ‬الذين‭ ‬حالفهم‭ ‬الحظ‭ ‬بالبقاء‭ ‬معها،‭ ‬وأذكر‭ ‬لما‭ ‬كنت‭ ‬أعمل‭ ‬في‭ ‬جريدة‭ ‬العراق‭ ‬مطلع‭ ‬التسعينيات‭ ‬أنَّ‭ ‬الجرد‭ ‬السنوي‭ ‬الذي‭ ‬تقوم‭ ‬فيه‭ ‬الجريدة‭ ‬يحقق‭ ‬أرباحاً‭ ‬ممتازة‭ ‬نتيجة‭ ‬الإعلانات‭ ‬الأهلية‭ ‬والحكومية‭ ‬التي‭ ‬تُنشر‭ ‬على‭ ‬صفحاتها،‭ ‬ولزخم‭ ‬تلك‭ ‬الإعلانات‭ ‬قرَّرتْ‭ ‬الجريدة‭ ‬إصدار‭ ‬ملحق‭ ‬إعلاني‭ ‬بأربع‭ ‬صفحات‭ ‬ينشر‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أسبوع،‭ ‬وأنيطت‭ ‬مهمة‭ ‬تصحيح‭ ‬الإعلانات‭ ‬إلى‭ ‬صديقي‭ ‬القاص‭ ‬المبدع‭ ‬عبد‭ ‬الرضا‭ ‬الحميد‭ ‬الذي‭ ‬وجدته‭ ‬مرهقاً‭ ‬يكاد‭ ‬قلبه‭ ‬ينفجر‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬الروتيني‭ ‬الذي‭ ‬أصاب‭ ‬عقله‭ ‬بالتكلّس،‭ ‬وما‭ ‬عاد‭ ‬يرى‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬أحلامه‭ ‬سوى‭ ‬لائحة‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬الإعلانات‭ ‬ونسى‭ ‬ديدنه‭ ‬وهاجسه‭ ‬بكتابة‭ ‬قصة‭ ‬جديدة‭ ‬أو‭ ‬مقال‭ ‬نقدي،‭ ‬ولعلَّ‭ ‬جريدة‭ ‬العراق‭ ‬اشتهرت‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬بصفتها‭ ‬الراعي‭ ‬الأول‭ ‬للإعلانات،‭ ‬وبرغم‭ ‬أنَّ‭ ‬الجريدة‭ ‬كانت‭ ‬تحقِّقُ‭ ‬أرباحاً‭ ‬هائلةً‭ ‬بجردها‭ ‬السنوي،‭ ‬إلاّ‭ ‬أنها‭ ‬أغفلت‭ ‬مصحح‭ ‬الإعلانات‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الأرباح،‭ ‬لأنَّ‭ ‬قانون‭ ‬الصحيفة‭ ‬لا‭ ‬يشمل‭ ‬بأرباحها‭ ‬العاملين‭ ‬على‭ ‬المكافأة‭ ‬الشهرية؛‭ ‬مع‭ ‬إنَّ‭ ‬صديقنا‭ ‬الحميد‭ ‬كان‭ ‬يصحح‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬خمسمئة‭ ‬إعلان‭ ‬باليوم‭ ‬الواحد‭. ‬ذلك‭ ‬الغبن‭ ‬الذي‭ ‬واجه‭ ‬الحميد‭ ‬ذكّرني‭ ‬بالحيف‭ ‬الذي‭ ‬يتعرّض‭ ‬إليه‭ ‬الشعب‭ ‬العراقي‭ ‬من‭ ‬صادرات‭ ‬نفطه‭ ‬الوفيرة،‭ ‬فلقد‭ ‬أشيع‭ ‬أنَّ‭ ‬هناك‭ ‬أرباح‭ ‬ستوزع‭ ‬على‭ ‬العوائل‭ ‬العراقية‭ ‬من‭ ‬فائض‭ ‬الميزانية‭ ‬الحكومية،‭ ‬وانشغلت‭ ‬بعض‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬شبه‭ ‬الرسمية‭ ‬بالترويج‭ ‬لتلك‭ ‬الأخبار،‭ ‬حتى‭ ‬بات‭ ‬الفرد‭ ‬العراقي‭ ‬يحلم‭ ‬بما‭ ‬سيشتريه‭ ‬من‭ ‬سلع‭ ‬بالحصة‭ ‬التي‭ ‬يحصل‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬الدولارات‭ ‬والتي‭ ‬قيل‭ ‬أنها‭ ‬ستكون‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ألف‭ ‬دولار‭ ‬للشخص‭ ‬الواحد،‭ ‬وها‭ ‬هي‭ ‬السنة‭ ‬تلفظ‭ ‬أنفاس‭ ‬أيامها‭ ‬الأخيرة‭ ‬وليست‭ ‬هناك‭ ‬أية‭ ‬بارقة‭ ‬أمل‭ ‬وحتى‭ ‬أي‭ ‬خبر‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كاذباً‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الحصة‭ ‬النفطية‭ ‬التي‭ ‬يبدو‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬مجرد‭ ‬دعاية‭ ‬خادعة‭ ‬من‭ ‬السياسيين‭ ‬الذين‭ ‬امتلأت‭ ‬بطونهم‭ ‬بما‭ ‬لذَّ‭ ‬وطاب‭ ‬من‭ ‬الدولارات‭ ‬الخضر‭ ‬وبسفرياتهم‭ ‬إلى‭ ‬المنتجعات‭. ‬وللجرد‭ ‬السنوي‭ ‬في‭ ‬وطني‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مصيبة‭ ‬ومقتل؟‭ ‬حيث‭ ‬نرى‭ ‬السياسي‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬الخضراء‭ ‬يجرد‭ ‬أرباحه‭ ‬من‭ ‬صفقات‭ ‬المشاريع‭ ‬الوهمية‭ ‬التي‭ ‬ظفر‭ ‬بها‭ ‬ومن‭ ‬الرحلات‭ ‬الرسمية‭ ‬المنعشة‭ ‬لدول‭ ‬العالم‭ ‬ويكاد‭ ‬من‭ ‬هول‭ ‬أرباحه‭ ‬أنْ‭ ‬يتعرض‭ ‬الى‭ ‬ذبحةٍ‭ ‬‮«‬دولاريةٍ‮»‬‭ ‬من‭ ‬شدة‭ ‬الفرح،‭ ‬بينما‭ ‬نرى‭ ‬على‭ ‬الجانب‭ ‬الآخر‭ ‬أنَّ‭ ‬الجرد‭ ‬السنوي‭ ‬للعوائل‭ ‬المعدمة‭ ‬والفقيرة‭  ‬هو‭ ‬إحصاء‭ ‬عدد‭ ‬الشهداء‭ ‬وعدد‭ ‬المعتقلين‭ ‬بقلوب‭ ‬دامية‭ ‬وعيون‭ ‬دامعة،‭ ‬ويا‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬قسمة‭ ‬ضيزى‭ ‬لا‭ ‬يرتضيها‭ ‬حتى‭ ‬اليهود،‭ ‬فهناك‭ ‬في‭ ‬مصارف‭ ‬مشبوهة‭ ‬تتكدَّسُ‭ ‬أطنان‭ ‬دولارات‭ ‬وسبائك‭ ‬ذهب‭ ‬للسياسي‭ ‬الخضراوي،‭ ‬بينما‭ ‬تتكدَّس‭ ‬في‭ ‬دواليب‭ ‬الفقراء‭ ‬الخشبية‭ ‬أسمال‭ ‬الذين‭ ‬استشهدوا‭ ‬وبعض‭ ‬حفنات‭ ‬من‭ ‬الرز‭ ‬والسكّر‭ ‬هي‭ ‬كل‭ ‬مؤونة‭ ‬الفقير‭ ‬لهذا‭ ‬الشتاء‭ ‬القاسي‭. ‬أجل‭ ‬هناك‭ ‬في‭ ‬وطني‭ ‬جرد‭ ‬سنوي‭ ‬يقود‭ ‬إلى‭ ‬أفراح‭ ‬عارمة‭ ‬وجرد‭ ‬سنوي‭ ‬آخر‭ ‬يقود‭ ‬إلى‭ ‬فجائع‭ ‬مؤلمة،‭ ‬وفرق‭ ‬شاسع‭ ‬بين‭ ‬جرد‭ ‬السياسي‭ ‬لأرباحه‭ ‬وجرد‭ ‬الفقير‭ ‬لخساراته،‭ ‬بل‭ ‬إنَّ‭ ‬خسارات‭ ‬الفقير‭ ‬تفوق‭ ‬كثيرا‭ ‬أرباح‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬يسعى‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬ثروته‭ ‬حتى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عدد‭ ‬الفقراء‭ ‬في‭ ‬العالم‭. ‬معظم‭ ‬الوعود‭ ‬التي‭ ‬أعلن‭ ‬عنها‭ ‬ساسة‭ ‬المنطقة‭ ‬الخضراء‭ ‬أصبحت‭ ‬قبض‭ ‬ريح،‭ ‬والبرهان‭ ‬سلَّم‭ ‬الرواتب‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬أكذوبة‭ ‬تتكرر‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬عام،‭ ‬لأنهم‭ ‬انشغلوا‭ ‬بجرد‭ ‬أرباحهم‭ ‬من‭ ‬العملية‭ ‬السياسية‭ ‬غير‭ ‬العادلة‭ ‬والتي‭ ‬كسرت‭ ‬ظهر‭ ‬الفقير،‭ ‬ربما‭ ‬هناك‭ ‬بعض‭ ‬الساسة‭ ‬يتشدقون‭ ‬بمنجز‭ ‬تحقق‭ ‬هنا‭ ‬وهناك،‭ ‬لكن‭ ‬الواقع‭ ‬يخبرنا‭ ‬بكل‭ ‬أسى‭ ‬أنَّ‭ ‬الشوارع‭ ‬العراقية‭ ‬غمرها‭ ‬الطين‭ ‬والمطر،‭ ‬وأنَّ‭ ‬الحصة‭ ‬التموينية‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬نسغ‭ ‬الروح‭ ‬للعائلة‭ ‬العراقية‭ ‬المتعففة‭ ‬تصل‭ ‬إليهم‭ ‬مقطّعة‭ ‬الأوصال،‭ ‬فأن‭ ‬حضر‭ ‬الدقيق‭ ‬غاب‭ ‬السُكّر،‭ ‬وإنْ‭ ‬حضر‭ ‬السمن‭ ‬غاب‭ ‬الشاي،‭ ‬ولا‭ ‬ندري‭ ‬متى‭ ‬تتحقق‭ ‬لهذا‭ ‬الشعب‭ ‬المحروم‭ ‬من‭ ‬أبسط‭ ‬وسائل‭ ‬العيش،‭ ‬فرصة‭ ‬جرد‭ ‬سنوي‭ ‬يحصي‭ ‬بها‭ ‬سرقات‭ ‬وفساد‭ ‬السياسيين،‭ ‬حتى‭ ‬يدرك‭ ‬حجم‭ ‬النهب‭ ‬الذي‭ ‬انتفع‭ ‬منه‭ ‬ساسة‭ ‬المنطقة‭ ‬الخضراء‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الفقراء‭. ‬وهل‭ ‬أنَّ‭ ‬المنطقة‭ ‬الخضراء‭ ‬تمتلك‭ ‬الشجاعة‭ ‬وتعلن‭ ‬عبر‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬عن‭ ‬جرد‭ ‬حقيقي‭ ‬لعدد‭ ‬الشهداء‭ ‬وعدد‭ ‬المعتقلين‭ ‬الأبرياء‭ ‬في‭ ‬سجون‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬مكانها‭ ‬سوى‭ ‬الراسخون‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬الخضراء؟‭ ‬وهل‭ ‬بوسع‭ ‬الساسة‭ ‬أن‭ ‬يشيروا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬تحقق‭ ‬من‭ ‬وعودهم‭ ‬التي‭ ‬أعلنوها‭ ‬إلى‭ ‬الناس؟‭ ‬وسيأتيك‭ ‬الجواب‭ ‬سريعاً‭ ‬أنَّ‭ ‬الأمن‭ ‬الوطني‭ ‬وضرورات‭ ‬إطارية‭ ‬لا‭ ‬تسمح‭ ‬لهم‭ ‬بإعلان‭ ‬حجم‭ ‬الخسائر‭ ‬والمصائب‭ ‬والويلات‭ ‬التي‭ ‬تعرض‭ ‬لها‭ ‬الشعب‭ ‬العراقي‭. ‬أجل‭ ‬أيها‭ ‬القارئ‭ ‬العزيز‭ ‬أكاد‭ ‬أرى‭ ‬الإرهابي‭ ‬يجرد‭ ‬بشهوة‭ ‬القتل‭ ‬عدد‭ ‬الأحزمة‭ ‬الناسفة‭ ‬والمفخخات‭ ‬المتبقية‭ ‬بحوزته‭ ‬الآن،‭ ‬مثلما‭ ‬أرى‭ ‬السياسي‭ ‬يجرد‭ ‬بلذة‭ ‬قصوى‭ ‬أرصدته‭ ‬التي‭ ‬أودعها‭ ‬في‭ ‬مصرف‭ ‬خارج‭ ‬الحدود،‭ ‬ومثلما‭ ‬أرى‭ ‬الفقير‭ ‬يجلس‭ ‬عند‭ ‬عتبة‭ ‬باب‭ ‬داره‭ ‬يحصي‭ ‬حسراته‭ ‬وعبراته‭ ‬على‭ ‬الأحبة‭ ‬الذين‭ ‬فقدهم‭ ‬والذين‭ ‬غيّبتهم‭ ‬المعتقلات‭ ‬ويلتفت‭ ‬مرتعشاً‭ ‬من‭ ‬البرد‭ ‬ومنكسراً‭ ‬إلى‭ ‬باحة‭ ‬الدار‭ ‬التي‭ ‬أغرقها‭ ‬المطر‭ ‬فيما‭ ‬قوت‭ ‬يومه‭ ‬يكاد‭ ‬ينفد،‭ ‬ويردد‭ ‬بصوت‭ ‬منكسر‭ ‬تسمعه‭ ‬ملائكة‭ ‬السماء،‭ ‬نريدُ‭ ‬حصتنا‭ ‬من‭ ‬النفط،‭ ‬وحسبي‭ ‬الله‭ ‬ونعم‭ ‬الوكيل‭.‬

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *