المتقاعد انسان  لا زال قادرا على العمل رغم إحالته على التقاعد ، وفي ذلك اعتبار التوقف عن العمل توقف عن الحياة   ويبدو أن الاعتقاد بالوقوف من دلائل العمل ، وأن القعود هو من دلائل البطالة  .

في اليوم الأول لبقائي في البيت دون عمل  بعد التقاعد    عانيت من ضيق وإحساس هائل بالعجز والفراغ ، فسيارات من يعملون تنطلق في الشوارع  ، والحركة نشطة في كل الاتجاهات ، وبعد ذلك هدوء قاتل يعم المكان والمنطقة  بأكملها بهذه الكلمات تحدث المتقاعد ( ل ، ا ) واردف  يقول: التقاعد موت بطيء على كرسي  المتقاعدين أو المهمشين كما يسمونا  نعم موت  مع سبق الإصرار والترصد مع القهر والظلم، أو كرسي المنزل أو المقهى أو حتى على قارعة الطريق، حيث السأم والملل اتركه ينفث دخان سيكارته بالهواء محدقا  بالسيارات المسرعة في الشارع المطل على المقهى الذي اعتاد الجلوس فيه ساعات طويلا .

أمام هذه الظروف يسعى بعض المتقاعدين  إلى التغلب على وضعه بالهروب بعيداً عن هذه الحالة، من خلال فتح مكتب صغير له يمارس من خلاله عملاً بسيطاً بعد خروجه من العمل او  أن يقبل بالتهميش على كرسي وظيفة أخرى لا تلبي طموحاته ومكانته وخبراته  ليموت جالساً على ذلك الكرسي، بعد أن تنهشه الأمراض النفسية ثم العضوية، إن لم تكن العقلية  خصوصاً حينما يشاهد نظرات الازدراء من زملائه الذين ربما كان رئيساً لهم أو مسؤولاً عنهم في يوم ما، أو نظرات الرأفة والعطف من زملاء يدركون حقيقة الأمور.

أخبرني أحد المتقاعدين بأنه كان يشغل منصبا رفيعا في إحدى الجهات الحكومية وكان بمجرد نزوله من السيارة يسارع كل من يقابله في السلام عليه وتحيته حتى يصل إلى مكتبه وبمجرد تقاعده تجاهلوه هؤلاء الذين كانوا يحرصون على السلام عليه بالأمس تماما بل إن موظف الأمن لم يسمح له بالدخول عبر البوابة  وياله من شعور قاس ومؤلم  ..

طابور المراجعين

الذي أعرفه أن المتقاعد له الأولوية في الكشف والدخول على العيادات ( وهو امر مألوف في البلدان الغربية وبعض الدول العربية )  ولكن  في العراق الذي ألاحظه أنه ينتظر واقفا في طابور المراجعين عند الاستقبال وينتظر فترة طويله مع المرضى الآخرين دون أن يؤبه له وقس على ذلك بقية الأماكن التي تتطلب الانتظار.

في مكان اخر حدثني العم ( غ ، ق ) بحزن شديد .. البعض يبعث برسائل سلبية للمتقاعد فيقول له مت وأنت قاعد وخذ سجادة الصلاة واتجه للعبادة ويكفيك ما قد فعلته في الأيام الخوالي، وكأنما يوحون له بأن دورك قد انتهى وهذه مغالطة فبعض المتقاعدين يكونون في قمة العطاء عند إحالتهم للتقاعد. أتعلمين ما معنى متقاعد؟ تعني مت وأنت قاعد  يتكلم الرجل الستيني عن حالة الاستياء التي عاشها قبل التقاعد بفترة وجيزة  بدأت أشعر بأنني سأفقد دوري الأساسي، ولم أجد دوراً آخر استطيع توليه بعد التقاعد. شعرت بأنني عجّزت فجأة   بعد خدمة امتدت ل  40 عاماً … أمّا اكثر ما يؤرق العم زهير  فيتجاوز مشكلة تقاعده  الشهري الذي لا يتعدى الـ300  ألف دينار الذي  لا يغطي تكاليف أمراضه، بل عجزه عن مساعدة ابنه لكي يتزوّج. تشير مريم  (ابنة كاتب عدل متقاعد) إلى احوال   أبيها التي لم تكن موجودة قبل مكوثه في البيت، وتلفت إلى حساسيته  التي باتت مفرطة  لا تعود هذه الحساسية إلى مسألة العمر كما هو شائع. فهذا العم سمير (  متقاعد) لم يكن عمره يتجاوز الـ52 عاماً عندما تقاعد، ورغم ذلك كان شديد الحساسية وكثير الانتقاد حسب ما يؤكد ولده علي  لكنه تغيّر مع مرور الوقت بعدما  تعوّد على الفكرة وشغل نفسه بنشاطات اخرى عديدة آخرها العمل في الزراعة .هكذا فعل العمّ عاطف (70 عاماً)، الذي انتظر فترة تقاعده  كي يرتاح  حتى أنه يستغرب من يكره أن يتقاعد  برأيه، من حق من يعمل طوال 50 عاماً أن يرتاح وأن يملأ وقت فراغه بالعديد من الأشياء، كما يفعل هو من خلال زراعة الورود في حديقة منزله، بعدما حرمه عمله منها لسنوات. كلام عاطف، يؤكد أهميته الطبيب النفسي المختص بالمسنين جورج كرم  إذ يشير إلى ضرورة النظر الى التقاعد على أنه خطوة جديدة في الحياة يجب التخطيط والتحضير لها لملء أوقات الفراغ عوضاً عن المكوث في المنزل الذي يصفه كرم بأنه ليس صحياً للدماغ والذاكرة كما من شأنه زيادة المشاكل العضوية فضلا عن تسبّبه بالاكتئاب.   ويشير كرم إلى أن غالبية المتقاعدين في العراق ، لا يحضّرون أنفسهم للتقاعد فيجدون أنفسهم فجأة، بلا عمل وبلا خطط لملء فراغ أوقاتهم وبالتالي يشعرون بأنهم غير منتجين وغير فعالين. ويلفت في هذا الصدد إلى ضرورة تعامل المجتمع مع المتقاعد على أنه شخص فعّال ولديه الكثير مما يعطيه . واخيرا وليس اخراً لابد من القول إن المتقاعد يحتاج من المجتمع إلى لمسة وفاء ويد حانيه وقلبا رحيما به وإلى من يشعره بكيانه وبمكانته لقاء ما قدمه أثناء عمله.أتمنى أن نجد بديلا لكلمة متقاعد تكون لها وقع طيب في نفس المتقاعد فمثلا نقول (ذوي الخبرة) أو (المكرمون ذوي الخبرة) وغيرها.

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *