يبدو أن أفكار عصر الأنوار، التي باتت اليوم من أهم ركائز الدولة الحديثة، لم تكن موضع قبول لدى المجتمع في القرن الثامن عشر، ولم تعجب مؤرخين أوربا الكبار، فقد كان هناك انطباع أن الدولة الصغيرة انتهى أوانها، وحل عصر القوة، الذي يعني عدداً ضخماً من السكان، واتساعاً هائلاً في المساحة، بل أن تعبير الدولة الصغيرة بات موضع تندر وسخرية، في العديد من البقاع، وأهمها يومئذ المدن الألمانية، وقد وجد الناس أن روح العدل والأخوة والمساواة، التي بشر بها فلاسفة عصر الأنوار تحتاج إلى العنف لتصبح حقيقة واقعة، ولا سبيل لذلك سوى الدولة.
في وقت ما، لم يكن هناك شئ اسمه “الجنسية” التي تمنح المواطن سمة الانتماء للدولة. كانت هناك مقاطعات متجانسة، يمتلك كل منها تقاليد راسخة، وتاريخاً خاصاً، ولهجة مميزة، وكان الشعور الذي يجمع بينها هو شعور “وطني”، في وقت لم يكن الشعور “القومي” قد ولد بعد، أي أن ”الجنسية” هي نتاج “قومي” في المقام الأول.
بل أن بعض المؤرخين مثل شلوتسر (ت 1809) رأى أن قيمة الدولة تتحدد بما تملكه من قوة عسكرية، واتساع جغرافي، لا بالفن والشعر الذي برعت فيهما جماعة عصر النهضة، ولا عمل للدولة لديه غير السياسة.
واستطراداً فإن هذا الشعور هو الذي قاد في وقت لاحق إلى اندماج (5) مقاطعات ألمانية مع بعضها، وانتظام (4) مقاطعات إيطالية في دولة واحدة، بعد أن تعرضت إلى غزوات نابليون بونابرت، وسقطت الواحدة تلو الأخرى في قبضته.
إن تتابع هذه الحوادث، على النحو الذي أتينا على جزء منه، هو الذي حمل البلدان الناطقة بالعربية في ما بعد، على التفكير بالوحدة، فقد كان كل منها يشعر بالضعف الشديد، والعجز التام، تجاه أي خطر قادم من الخارج، ولم يكن أي منها يضم أعداداً كافية من السكان، فقد كانت الولايات الثلاث التي شكلت الدولة العراقية بعد الحرب العالمية الأولى مثلاً، لا تضم أكثر من مليون وربع المليون إنسان، ولم تكن البلدان الأخرى أفضل حالاً، ومثل هذه الأعداد الضئيلة لا تشكل أي معلم من معالم القوة، بل إنها لم تكن قادرة على منح العديد منها صفة الدولة.
وللأسف فإن حلم الدولة الكبرى قد أجهض تماماً في حرب حزيران 1967. وصرف العرب النظر عنه، بعد أن نمت أعداد السكان في بلدانهم، وقررت منظمات وأحزاب قومية، التخلي عنه لصالح حلم فاشل آخر، مناقض له تماماً، هو الأممية.
غير أن ما يلفت النظر أن الفن والشعر، اللذين كان ينظر لهما شلوتسر باحتقار، مزدرياً في ذلك تراث اليونانيين القدماء أيضاً، كانا عاملين مهمين من عوامل الاصطفاف القومي عند العرب، وهما اللذان يجمعانهم حتى اليوم، ويحاولان رأب ما تصدع من أحلامهم، التي عصف بها واقعهم المرير.
ربما سيكون على العرب إعادة التفكير في مثل هذا المصير المحزن، الذي آلت إليه أوضاعهم، تحت ضربات الدول الكبرى.
لقد كان النظر إلى القوة والعنف كأسمى مبدأين في العالم، نقطة الشروع التي افترضتها هذه الدول للإجهاز على الكيانات الصغرى، ومنعها من التقدم.
إن الدول الصغيرة، التي تعملقت بمرور الوقت، حتى زاد عدد سكانها عن عدد سكان البلدان العربية مجتمعة قبل قرن من الزمان، لم تعد تشعر أنها كيانات صغيرة، وباتت تظن أنها بلغت مبلغ الدول الكبرى، ولم تعد بحاجة إلى العون من جاراتها العربيات، وهو ما أثبتت بطلانه الحوادث المتلاحقة في المنطقة في العقود الأخيرة، وربما ستجبرها الظروف في المستقبل على التفكير مجدداً في ائتلاف يحميها من الأذى والقهر والعدوان.