لم يتمكَّنْ صديق الغجري من الاستحمام في بيت شقيقتهِ لانقطاع الماء؛ لكنَّهُ شذَّبَ لحيتهُ ورشَّ عطراً رخيصاً تحت إبطيّهِ بمحاولة يائسة لكتم رائحة متخمِّرة كانت تنبعثُ بلا هوادةٍ من مسامات جلده. ارتدى قميصاً نظيفاً منحنهُ إيَّاهُ زوج أخته لينطلق بمركبة أجرة إلى مبنى اللجنة الأولمبية بعد أنْ تكرَّم صهره بدفع ثمن كرائها. كانت الساعة تشير إلى الثامنة والنصف صباحاً حين وصل إلى البوَّابة الشاهقة للجنة الأولمبية؛ كادت حياته تذهب أدراج الرياح في تلك الدقائق العصيبة عندما صوَّبَ جنود الحماية بنادقهم عليه، سرعان ما وضعَ يديِّه فوق رأسه وأخبرهم بصوتٍ مرتبك:
- لا تطلقوا الرصاص؛ أنا شاعر.
استفهم جنود الحماية عن السبب بقدومهِ إلى مقر اللجنة الأولمبية؛ فأخبرهم أنَّ «الأستاذ» سيلتقي بالفائزين من انتخابات اتحاد الأدباء بعد نصف ساعة وهو أحدهم، ظلَّتْ الدهشة ترتسمُ على وجوههم؛ فهم لا يمتلكون أية معلومة عن الانتخابات الملحمية التي جرتْ ظهيرة أمس، سألهُ أحدهم بلهجةِ أهل تكريت مستهجناً:
- « يَوَلْ؛ باب المراجعين مو مِنْ هَين».
أجاب كمن يعتذر:
- هذه المرَّة الأولى التي أزور بها مقر اللجنة الأولمبية.
أشار أحدهم إلى باب تبعد مئات الأمتار عن المكان الذي يقف عليه الآن، لينصرف عنهم بخطواتٍ سريعةٍ وقلبه يخفق كراية ممزقة في مهبِّ ريح، لما وصل إلى ذلك الباب كان العرق قد غزاهُ؛ وضجَّتْ الرائحة غير الطيبة في جسده؛ ليس بعيداً أنْ تكون رائحته المزعجة عقبةً كَأْداءً أمام حضوره لذلك اللقاء الذي ربما سيغير مجرى حياته وينتشلهُ من الحرمان والعوز والصعلكة التي غدتْ تطحن بعظامه. لم يتأخر كثيراً في غرفة الاستعلامات حين أخبرهم عن مراده؛ إذْ سرعان ما جاءت سيارة صغيرة وحملته إلى مقر اللجنة الأولمبية، دخلَ إلى قاعةٍ فارهةٍ بسقفٍ يرتفع عن رأسهِ بعشرات الأمتار، وهناك وجَدَ الأدباء الفائزين ينتظرون ساعة اللقاء؛ هجس أنَّ ملامح بعض الوجوه قدْ تجهَّمتْ حالما غدى أمامهم، جلس على أحد المقاعد الوثيرة فبادر الشاعر رعد عبد القادر وألقى عليه تحية دافئة طردتْ الاضطراب الذي لازمهُ بسبب بعض الوجوه الواجمة التي استقبلتهُ، فجأةً دبَّتْ حركة مريبة بين بعض الأدباء الفائزين مع مشاورات جانبية لوسام هاشم مع رعد بندر ليدخلا فيما بعد إلى غرفة جانبية. تأكَّدَ صديق الغجري ثمَّة مؤامرة تُطبخ ضدَّه؛ ولما طلب من القاص شوقي كريم أنْ يرشده إلى المرافق الصحيَّة حتى يشطف وجهه بالماء نتيجة العرق الذي غزاهُ؛ أجابهُ بصوتٍ متوترٍ:
- سندخل لرؤية الأستاذ بعد دقائق؛ الأفضل أنْ تبقى في مكانك.
أذعنَ لوصيته ومكث في مقعده لا يريم؛ حتى ظهر وسام هاشم من الغرفة الجانبية وتقدَّم نحوهم قابضاً بيده على ورقة صغيرة؛ أخبرهم بصوت متعثر:
- الأستاذ شطبَ على ثلاثة أسماء منكم مع الأسف؛ وعليهم مغادرة المكان.
خيَّمَ صمتٌ مفزع على الجميع؛ كان صديق الغجري من ضمن الأسماء الثلاثة التي حذفها عدي من قائمة الفائزين؛ فيما هبَّ الشاعر حميد قاسم من مقعده منزعجاً لدى سماعه نبأ شطب اسمه وتساءلَ بنبرةٍ ساخطةٍ:
- لماذا طلبتم منا الحضور إذن؟ هذه مهزلة؛ لقد صادق القاضي على جميع الأسماء الفائزة؛ فلماذا هذا الإقصاء المقصود لأسمائنا؟! طُزْ..
والتفت نحو صديق الغجري قائلاً:
- هيَّا لنخرج..
عندما أصبحا خارج مبنى اللجنة الأولمبية قال حميد:
- إنَّهُ لشرف لنا أنْ نُطرد من هذا المكان.
كان برفقتهما أديبٌ بصري شطبَ عدي على اسمه أيضاً؛ وقد خيَّم الحزن على ملامح وجهه فقال بأسى:
- أنا عضو شعبة في الحزب، أكادُ لا أصدق أنَّ الأستاذ حذفَ اسمي؟
ضحك حميد قاسم وأخبرهُ متهكماً:
- ربما لأنَّكَ من الحرس القديم.
أردف صديق الغجري قائلاً:
- أما نحنُ فسنراجع جان دمو لمعرفة سبب شطب اسمينا.
افترقا عن ذلك الأديب البعثي الذي كان رئيسا لاتحاد أدباء البصرة في ذلك الوقت وكان يحمل صفة دكتور في الأدب، فيما أخذ قاسم صديق الغجري إلى محل سكناه في زيونه، لما وصلا كان ابنه البكر بانتظارهما؛ نطقَ صديق الغجري بانكسار:
- يا إلهي ماذا ستقول لمجد؟
أجاب حميد بعينين لامعتين بالزهو:
- سأقول لهُ باعتزاز إنَّ أباك لا يحبّهُ ابن الرئيس.
جلس صديق الغجري ساعةً من الوقت في مشتمل قاسم لينطلق بعدها إلى أقرب حانة بمحاولة إلى إخماد سعير النار في دمه؛ فيما راحتْ تنضجُ فكرة خطيرة في رأسه سينفذها عندما يدخل نادي الأدباء هذا المساء.