ما أصعب أن تستيقظ صباحاً، وتجد أن ثورة (14 تموز)، قد أُلغيت بقرار رسمي، ويُقال لك علنًا: إنها سقطت من تاريخك بلا رجعة؛ لأنها مجرد جمهورية زائلة، وأن دماء الجمهوريين صارت حلمًا عابرًا؛ فامحُ من ذاكرتك حنين الجمهورية الأولى، واستعض عنها بأعياد الأديان والطوائف والقوميات التي صارت أكبر من الأوطان!
لم يعد لدينا «جمهورية» نحتفل بها! فقد أسقطت عمدًا من تاريخ الوطن؛ فلا عيد لها ولا أفراح، حيث تم محوها من تاريخ العراق، ومن قواميس الاستقلال. لقد قتلنا مدرس التاريخ والوطنية والجغرافيا؛ فاستُبدِل الأصل بالفرع، واستُبدِل زعيم الفقراء بزعيم القصور واللصوص!
ما زالت المناقشات مستمرة بالمقارنات، وما يزال الحنين للماضي أقوى، خاصة النظام الملكي، وهو حنين سيكولوجي (بامتياز). فالملكية لم تحقق للناس جنة عدن؛ فلقد كان الفقر في أعلى مستوياته، والأميّة ضاربة في الجذور، والفقراء يعملون عبيدًا في مزارع الإقطاع، وبيوت الطين والصرائف علامة بارزة؛ لكن لم يكن هذا الحنين سببه فكرة «الجمهورية»؛ وإنما هو انعكاس لعوامل سياسية ونفسية مرتبطة بالواقع.
فالعراقي الذي ألغى (حلف بغداد) وأنهى (عصر الأقطاع) تمّ معاقبته من الخارج بتأسيس نماذج سلبية في الواقع السياسي، وذلك بإدخاله في عواصف الاضطرابات والانقلابات والعنف الدموي لعقود طويلة، وتحت انتداب ظلم قادة جمهوريات القتل والاستبداد واللصوصية من اجل تثبيت متلازمة الحنين إلى الماضي، وغرسها في جذور النفوس المتعبة!
ومثلما قد نختلف في نوع النظام، فإننا نختلف أيضًا في حاكم النظام، وقد مرّ على العراق كوكتيل منوّع من الرجال البسطاء والمغامرون واللصوص، فاختلفنا في التقييم والمحبة؛ لكن المشكلة في الشخصية العراقية: أنها مزاجيَّة في الاختيار، لها حنين غريب ومتناقض لكل مَن رحل عنها وغادرها إلى مثواه الأخير، كما هي عاشقة لحكم الفرد الواحد؛ متناقضات في ترمومتر الحب والكره، وفي مؤشرات القبول والرفض!
لم يكن حكام العراق من الملكية إلى عصر الجمهورية (أنبياء) في الأفعال؛ فكلهم قد سقط في فخ حب السلطة والجاه والمال، وأمراض داء العظمة -ولو بنسب متفاوتة-: منهم من أخطأ الهدفَ جهلًا بالسياسة، ومنهم من خانته التجارب والنضوج السياسي. اختلفنا مع الجميع؛ فقتلنا أكثرهم، وعشنا على الذكرى نعض أصابع الندم ونعانق الخسران المبين!
اختلفنا في عبد الكريم قاسم (الحاكم الفقير)؛ لأنه كان فرديًّا أومزاجيًّا، أو لأنه كان في ذلك الوقت عراقيًّا في التفكير، أو شعوبيًّا -كما وصفه البعض -، كما اختلف فيه بعضنا؛ لأنه احتضن فقراء ريف الجنوب في بغداد، فحوَّلها إلى مدينة عشويات وصرائف.
5 اختلفنا فيه؛ لكننا لم نَحلّ لغز صورته الرمزية في القمر بعيون الفقراء، ولم نقرأ تاريخ الثورة وواقعها في ذلك الوقت. فالزعيم جنرال عسكري يعيش بين أهوال السلاح، لا بين حدائق الزهور، وهو ابن ثقافة القوة والعسكر، يُعوِزه النضوج السياسي والتجربة السياسية العميقة.
وبمقارنات الحاضر، وترف حكام هذا الزمن، فالحاكم فقير عشق الفقراء، فلم يعش في قصور اللؤلؤ والمرجان؛ وإنما عاش في غرفة نومٍ بسيطة في وزارة الدفاع، ومات معدمًا بالإعدام، ليس في جيبه إلا تفاليس من الدنانير القديمة الممزَّقة!
رباط الكلام: الأقسى أن نختلف في جنس الوطن وعلَمِه وألوانه وهويته وعيده الوطني، والتطرف في نقد التاريخ أو إلغاءه بالانتقائية، فنحن اليوم لا نحتاج إلى عطل الأديان والطوائف والقوميات التي تتناسل مثل الأرضة؛ لأن عيد الوطن هو الأكبر والأعز، وهو عيد (جمهورية تموز الحب)؛ تاريخ أول شُعلة لحرية العراق، وهو أول أبجدية سياسية عراقية قالت: هنا جمهورية العراق!