الوقت يمضي ببطء ثقيل، يا رفيق الروح. قبل قليل، كنت أحاول الهروب من واقعي، أفعل ما أعتدت أن أجده ملاذاً: أتجول في شوارع بغداد عبر الشاشات، تلك المدينة التي طالما كانت رمزاً للهوية والانتماء. لكن بغداد التي شاهدتها اليوم كانت غريبة، خاوية من نفسها. لم تكن بغداد التي نعرفها؛ كانت بغداد مقهورة، مكسورة الروح، شوارعها باتت محطاً لأجساد بلا حياة، أناس كأنهم عابرون بين الموت والموت. وأنت يا كرار، كنتَ تشرف علينا من بعيد، من عالمٍ آخر، بوجهك الذي لا يزال يضيء بياضاً خالصاً، بابتسامتك التي لم تفارقني رغم رحيلك.
كنتَ أكثر مما نستحقه في هذه الحياة، أكثر من أن نفهم عمقك أو نحتوي حضورك. حينما كنت تتحدث، كنا نصمت جميعاً، ليس لأننا لا نملك شيئاً لنقوله، بل لأنك كنت تجسد حقيقةً أعلى، فكراً لا يقارن. كان عقلك كالنصل، يقطع أوهامنا بوضوح ويكشف خفايا الأمور ببراعة.
اليوم، يا أخي، اكتمل إدراكي لحجم الفراغ الذي تركته. اليوم بالذات، وكأنني تلقيت الصدمة التي كنت أحاول تجنبها. كنت أجلس في هدوء، أستمع لجملة عابرة، جملة تبدو منطقية في ظاهرها، لكنها اخترقتني كالسهم: “كرار لن يعود”. لم تكن تلك الكلمات مجرد إخبار، بل كانت صفعة وجودية أيقظتني على حقيقة لا مفر منها. شعرت بأنني أختنق، وكأن الأرض ضاقت بما رحبت. تمنيت لو أنني أتحمل كل عذابات العالم، لو أن الموت يصبح أمنية لا تتحقق. كان الحزن يغرقني، ودموعي تجعل كل شيء أمامي ضبابياً. كيف أستمر في الحياة، وأنت لم تعد جزءاً منها؟
يا كرار، ربما لم تذهب بعيداً، ربما رحلت لتترك في قلبي حملاً أثقل مما كنت أتخيل. كأنني أعيش على حافة بين الحياة والموت، بين وعيي بك ووعيي بغيابك. بعدك، توقف الزمن، وتوقف معه نبضي، تلك النبضة التي خذلتني قبل أيام، حين أخذني الحزن إلى حيث لا أمل، وكدت أن أرحل أنا أيضاً، كدت أن ألحق بك، لكن الأقدار لم تشأ بعد.
وكأنك لم ترحل يا كرار، بل امتزجت بقلبي وأصبحت نبضة ثقيلة، تتردد في أعماقي كصدى بعيد. غيابك ليس فراغاً، بل حضور لا يغيب، وجع يتجدد مع كل دقيقة تمر ببطء، يذكرني أن الزمن قد توقف حين غادرت. وكأنك ختمت وجودك في روحي، تركتني أسير بين لحظتين: لحظة كنت فيها، ولحظة لا أملك فيها إلا طيفك.
لقد أتعبني الفذق يا كرار
أتعبني
أتعبني.