مأساة واحدة فى أوكرانيا تقود خلال شهر واحد إلى انعطافات سياسية وأمنية واقتصادية كبرى، بصورة مباشرة فى المشهد الأوروبى وبصورة غير مباشرة فى العالم كله.
فحلف الناتو، الذى وصف حالته الرئيس الفرنسى منذ شهور قليلة بأنها قريبة إلى حالة الموت السريرى البطىء، بدأ نشاطا محموما لمراجعة استراتيجياته العسكرية والسياسية، ويخطط للتوسع ولأخذ خطوات كانت فى الماضى القريب ضمن الخطوط الحمراء غير المسموح بتخطيها.
والاتحاد الأوروبى الذى امتحنت قواه وتماسكه أحداث من مثل الخروج البريطانى المفاجئ من الاتحاد، ومواجهة بعض أعضائه أزمات مالية بالغة الخطورة تحتاج إلى إنقاذ مالى مكلف، والانتشار الشديد لوباء فيروس الكورونا فى بعض دوله، عاد وتماسك من جديد واتخذ قرارات استراتيجية بشأن مستقبله، من حيث استقلاله ولعب أدوارا أكبر فى المسرح الدولى ومراجعة علاقاته بالدول الكبرى على الأخص.
ومنذ بضعة أيام أحدثت ألمانيا زلزالا سياسيا وعسكريا عندما قررت أن تعود لبناء جيش ألمانى قوى، ولدخول مسرح الصناعة الحربية من أبوابه الواسعة ومن دون أية تحفظات كانت قد راعتها عبر السبعين سنة الماضية.
وهناك دلائل إرهاصات قادمة فى المزاج الشعبى الأوروبى التى قد تأتى بما لم يكن فى الحسبان، وتغير المشاهد السياسية فى العديد من دول الاتحاد الأوروبى المحورية.
هكذا هو حال الحكومات المسئولة التى تخضع لمحاسبة قوى مجتمعاتها وإمكانيات إصدار أحكام قاسية عليها فى ساحات كل أنواع الانتخابات.
لكن المنظر فى كل أرض العرب يختلف عن ذلك المشهد الأوروبى كل الاختلاف. فبالرغم من عشرات المآسى والفواجع التى واجهتها العديد من الأقطار العربية، ومن بينها أقطار محورية فاعلة فى الحياة العربية، إلا أننا لم نسمع بحدوث أى انعطاف، أو قرب مجىء أى انعطاف، سواء فى الحياة السياسية التضامنية العربية، أو فى مواجهة الانتعاش المذهل لعدد ونوع أعداء هذه الأمة، أو فى إيقاف النزيف الهائل لثروات وأمن وسلام المجتمعات العربية.
وكان هناك بصيص أمل فى أن تكون اجتماعات مؤتمر القمة العربى القادم فى الجزائر مدخلا لمبادرات عربية مشتركة، سواء فى السياسة التضامنية أو الأمن العربى المشترك أو التنسيق الاقتصادى أو اتخاذ موقف استراتيجى موحد من تغيرات العالم الهائلة، لكن كل الدلائل تشير إلى عدم وجود مبادرات من أى نوع كان، وإلى انشغال كل قطر بمواجهة الأهوال لوحده وبمعزل عن أشقائه. حتى رجوع سوريا العربية الشقيقة، أحد الأقطار المفصلية فى الحياة العربية عبر القرون، أصبح مشكوكا فى حدوثه، إذ لازالت بعض الحكومات تنتظر صدور التوجيهات من واشنطن ومعرفة رد الفعل الصهيونى فى العهد التطبيعى التآمرى الذى نعيشه.
ما يجعل المشهد العربى أكثر بؤسا وتشائما ويأسا هو أن الانعطاف الكبير الذى فجرته قوى الشباب والجماهير العربية المليونية منذ عدة سنوات، والذى أفشلته قوى الخارج وأخطاء الداخل الكثيرة، هو الآخر يعانى الأمرين حتى فى الأقطار العربية التى كانت واعدة.
إذا لم تقم بعض أنظمة الحكم أو بعض قوى المجتمعات المدنية العربية بمبادرات جديدة فى الحال، ودون تأخير، فإننا سنشهد دخول هذه الأمة فى غيبوبة تاريخية؛ عمل الاستعمار الغربى وأميركا والكيان الصهيونى عبر عشرات السنين من أجل دخول هذه الأمة فيها دون نجاح يذكر. وها أننا، نحن العرب، نقف على أبوابها ونمسك بيد بعضنا البعض لدخولها وذلك بفضل بلاداتنا وانقساماتنا العبثية وجنون بعضنا.
يا شاعر العرب العظيم، أينك من رؤية تحقق ما تنبأت به منذ قرون: يا أمة ضحكت من جهلها الأمم.