عندما نفتح ملف الشرق الأوسط، نجد أن جذور أزماتنا ليست وليدة اليوم، بل هي امتداد لتاريخ طويل من التخطيط الاستعماري. ومع صعود الولايات المتحدة كقوة عظمى بعد الحرب العالمية الثانية، ورثت نفوذ الإمبراطوريات الأوروبية التي انهارت تحت وطأة الحرب. لكن، هل كانت أمريكا تمتلك مشروعًا واضحًا لمنطقتنا؟ أم أنها اكتفت بإدارة إرث سايكس بيكو بوجه جديد؟

الولايات المتحدة الأمريكية ليست مجرد قوة عظمى، بل وريثة لإرث استعماري امتد لعقود. بعد الحرب العالمية الثانية، توّجت أمريكا وريثة للإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية اللتين انهارتا بفعل الحرب. أوروبا، التي كانت لعقود مهيمنة على العالم ومستعمراته، تحولت إلى تابع، وأصبحت مستعمراتها ضمن أملاك أمريكا الجديدة.

قبل هذا التحول، قامت بريطانيا وفرنسا بتقسيم منطقة الشرق الأوسط عبر اتفاقية سايكس بيكو، حيث أُعيد تشكيل المنطقة في شكل دويلات شبه مستقلة، تعيش تحت مظلة القوى الاستعمارية. لم تكن هذه الحدود عبثية، بل رُسمت وفق خطة مُحكمة وضعها المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون، الذي كان أحد أبرز العقول الاستشراقية المعادية للإسلام والمسلمين. ماسينيون لم يكتفِ برسم الحدود، بل أراد تأسيس دول ضعيفة تعتمد بالكامل على الغرب، ولا يمكنها النهوض أو الاستقلال إلا من خلاله.

وهكذا نشأت دولنا: لبنان، سوريا، العراق، الأردن، وغيرها. جميعها أمثلة لدول لا تستطيع الاستقلال بمفردها. ورغم ذلك، هناك من يدعو في لبنان للتخلص من سلاح المقاومة والاعتماد على ما يُسمى “خيار الدولة”، في تناقض واضح مع طبيعة هذه الدولة الهشة التي لا يمكنها النهوض وحدها.

شعوبنا، على مر العقود، تأقلمت مع هذه الحقائق. لقد درسنا الأناشيد الوطنية، وأصبحت حدود سايكس بيكو “مقدسة” في أذهاننا، ليس حبًا بها، ولكن لأننا اعتدنا عليها ورضينا بالواقع. وكما يقول المثل العراقي: “رضيت بالبين والبين ما رضى بيّه.”

ومع ذلك، جاء المالك الجديد، أمريكا، لتقرر تغيير الديكور. فكما تغير زوجة الرئيس الأمريكي أثاث البيت الأبيض عند قدوم رئيس جديد، قررت أمريكا إعادة ترتيب ممتلكاتها في المنطقة. الخرائط والحدود لم تعد ثابتة، وأصبح الحديث عن تعديل حدود سايكس بيكو أمرًا واقعًا، رغم ما سيجرّه ذلك من بحور من الدماء.

ترامب، الرئيس الأمريكي السابق، أظهر هذا النهج بوضوح. أعطى الجولان لإسرائيل، بحجة أنها بحاجة لمزيد من الأراضي. تصرف كما لو أن الحدود لعبة، يمكن تغييرها وفق مصالح القوى الكبرى.

إذا كان لأمريكا الحق في تغيير حدود سايكس بيكو، فمن الطبيعي أن تسعى تركيا، وريثة الإمبراطورية العثمانية، لإعادة إحياء أمجادها. كذلك إيران، بوراثتها التاريخية للإمبراطوريات الفارسية، تحاول إعادة رسم حدودها من خراسان إلى سواحل البحر المتوسط.

رغم كل ذلك، يبدو أن أمريكا، الإمبراطورية العظمى، لا تمتلك مشروعًا حقيقيًا للمنطقة. إمبراطوريتها نفسها تعاني من فساد هائل سياسي ومالي واجتماعي، وهو فساد معدٍ، يمتد إلى كل مكان تطاله يدها، بما في ذلك منطقتنا.

اليوم، نحن في زمن نهاية سايكس بيكو. الحضارة الغربية نفسها تواجه مرحلة أفول، والتحولات الإقليمية والدولية تعيد رسم المشهد. وكما يقول المثل العراقي: “إلَك يا طويل الذراع”، أو كما يقول سعد الصغير: “عندك فلوس احضن وبوس.” القوة أصبحت هي العامل الوحيد في هذه الفوضى، فمن يملك القوة – سواء كانت ميليشيات أو سلاحًا نوويًا – هو الذي سيعيد ترتيب الأوراق في هذا الصراع المتوحش، حيث “القوي ياكل الرچيچ.”

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *