ما‭ ‬أن‭ ‬تترك‭ ‬البيت‭ ‬وتخرج‭ ‬للشارع‭ ‬حتى‭ ‬تدرك‭ ‬الأكذوبة،‭ ‬ليست‭ ‬كذبتك‭ ‬كجرم‭ ‬صغير‭ ‬ضعيف‭ ‬ولكن‭ ‬أيضا‭ ‬كذبة‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬لايبدو‭ ‬منشغلا‭ ‬بالأحداث‭ ‬الكبيرة‭ ‬ولا‭ ‬مهتما‭ ‬بما‭ ‬نكتب‭ ‬ونقرأ‭ ‬ونخطط،‭ ‬الأفراد‭ ‬الهامشيون‭ ‬وقد‭ ‬كستهم‭ ‬سلطة‭ ‬غامضة‭ ‬أو‭ ‬معروفة‭ ‬بهيبة‭ ‬زائفة‭ ‬تجعلهم‭ ‬يوسعون‭ ‬فضاءاتهم،‭ ‬سيارات‭ ‬دفع‭ ‬رباعي‭ ‬ونظارات‭ ‬معتمة‭ ‬وأحذية‭ ‬غالية‭ ‬الثمن‭ ‬تدق‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬للدخول‭ ‬بلا‭ ‬استئذان‭.‬

قررت‭ ‬تغيير‭ ‬خارطة‭ ‬تجوالي‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬فجأة،‭ ‬فاتجهت‭ ‬شرقا‭/ ‬شمالا‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬غربا‭/ ‬جنوبا،‭ ‬ببساطة‭ ‬لاختراق‭ ‬تلك‭ ‬المساحة‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬خالية‭ ‬جرداء‭ ‬قبل‭ ‬ستين‭ ‬عاما،‭ ‬كانت‭ ‬فضاء‭ ‬مفتوحا‭ ‬يبتدئ‭ ‬من‭ ‬نهاية‭ ‬زقاقنا‭ ‬حتى‭ ‬يصل‭( ‬الوشاش‭ ) ‬ووجدت‭ ‬نفسي‭ ‬أقتفي‭ ‬خطوات‭ ‬أمي‭ ‬قبل‭ ‬هذه‭ ‬العقود‭ ‬الستة‭ ‬وهي‭ ‬تخرج‭ ‬من‭ ‬البيت‭ ‬لتذهب‭ ‬للتسوق‭ ‬من‭ ‬سوق‭ ‬الوشاش‭ ‬الشعبي‭. ‬كنت‭ ‬أشعر‭ ‬بمسؤوليتي‭ ‬عنها‭ ‬فأصعد‭ ‬للسطح‭ ‬العالي‭ ‬للدار‭ ‬فأتعقبها‭ ‬بمشيتها‭ ‬التي‭ ‬تشبه‭ ‬ابتسامتها‭ ‬الساخرة‭ ‬بنصف‭ ‬وجه‭ ‬فيما‭ ‬يعبر‭ ‬النصف‭ ‬الآخر‭ ‬بمشاعر‭ ‬أخرى‭ ‬صعبة‭ ‬التأويل،‭ ‬أراقبها‭ ‬وهي‭ ‬تثير‭ ‬الغبار‭ ‬خلفها‭ ‬من‭ ‬حفيف‭ ‬عباءتها،‭ ‬حتى‭ ‬تدخل‭ ‬فم‭ ‬السوق‭ ‬فيضيع‭ ‬أثرها،‭ ‬تتراءى‭ ‬لي‭ ‬دائما‭ ‬وهي‭ ‬تجر‭ ‬وراءها‭ ‬عربة‭ ‬تسوق‭ ‬خشبية‭ ‬والواقع‭ ‬أنها‭ ‬عندما‭ ‬تخرج‭ ‬من‭ ‬السوق‭ ‬بتمهلها‭ ‬المثير،‭ ‬يخرج‭ ‬خلفها‭ ‬صبي‭ ‬يدفع‭ ‬هذه‭ ‬العربة‭ ‬وهي‭ ‬تنوء‭ ‬بحمل‭ ‬غلة‭ ‬تسوقها،‭ ‬كانت‭ ‬واثقة‭ ‬بحيث‭ ‬لا‭ ‬تلتفت‭ ‬للخلف‭ ‬للتأكد‭ ‬من‭ ‬صبي‭ ‬العربة‭ ‬حتى‭ ‬وصولها‭ ‬البيت‭ ‬فتعطيه‭ ‬أجره،‭ ‬قبل‭ ‬ذلك‭ ‬أكون‭ ‬قد‭ ‬نزلت،‭ ‬أنا‭ ‬أو‭ ‬أحد‭ ‬اخوتي‭ ‬لإفراغ‭ ‬حمولة‭ ‬العربة‭ ‬ونحن‭ ‬نتبادل‭ ‬النظرات‭ ‬البقرية‭ ‬مع‭ ‬الصبي‭ ‬الذي‭ ‬ينتمي‭ ‬لعالم‭ ‬آخر‭.‬

كان‭ ‬هذا‭ ‬الفضاء‭ ‬يتحول‭ ‬صيفا‭ ‬إلى‭ ‬مربعات‭ ‬هائلة‭ ‬عديدة‭ ‬لتكون‭ ‬ملاعب‭ ‬كرة‭ ‬قدم،‭ ‬ولنا‭ ‬فيه‭ ‬حصة،‭ ‬ربما‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬1965‭ ‬أو‭ ‬العام‭ ‬الذي‭ ‬يليه‭ ‬بدأت‭ ‬بعض‭ ‬البيوت‭ ‬بالتشييد،‭ ‬كان‭ ‬أولها‭ ‬بيتان،‭ ‬لموظف‭ ‬مهندس‭ ‬له‭ ‬ولدان،‭ ‬لؤي‭ ‬وقصي،‭ ‬والبيت‭ ‬الآخر‭ ‬لمدرس‭ ‬أو‭ ‬موظف‭ ‬مسيحي‭ ‬كان‭ ‬عائدا‭ ‬من‭ ‬الإتحاد‭ ‬السوفيتي،‭ ‬يقوم‭ ‬بطردنا‭ ‬دائما‭ ‬وحتى‭ ‬شق‭ ‬بطن‭ ‬كرتنا‭ ‬بسكين‭ ‬مطبخه،‭ ‬لؤي‭ ‬يكبرني‭ ‬بعام‭ ‬أو‭ ‬عامين،‭ ‬عملي‭ ‬فتفوق‭ ‬بالدراسة‭ ‬والعمل‭ ‬حتى‭ ‬اختفى‭ ‬من‭ ‬الشاشة،‭ ‬قد‭ ‬يعود‭ ‬اختفاؤه‭ ‬للانسحاب‭ ‬المأساوي‭ ‬لأخيه‭ ‬قصي،‭ ‬قصي‭ ‬كان‭ ‬بعمري‭ ‬وكنا‭ ‬لموسم‭ ‬واحد‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الصف،‭ ‬لؤي‭ ‬لعب‭ ‬معنا‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭ ‬لموسمين‭ ‬ربما،‭ ‬أما‭ ‬قصي‭ ‬فاقترب‭ ‬منا‭ ‬لأيام‭ ‬وابتعد،‭ ‬رغم‭ ‬ذلك‭ ‬نمت‭ ‬صداقة‭ ‬خاصة‭ ‬بيننا،‭ ‬بحيث‭ ‬نخرج‭ ‬سوية،‭ ‬ليس‭ ‬كصغيرين‭ ‬بل‭ ‬كصديقين‭ ‬يهمهما‭ ‬أمر‭ ‬جلل،‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬سمعت‭ ‬بالشيزوفرينيا،‭ ‬عندما‭ ‬أشار‭ ‬لؤي‭ ‬لقصي،‭ ‬يختفي‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬لأشهر‭ ‬فيظهر‭ ‬لاحقا‭ ‬بوجه‭ ‬مطعون‭ ‬بلعنة‭ ‬تركت‭ ‬أثرا‭ ‬أسود‭ ‬هنا‭ ‬وهناك،‭ ‬لكن‭ ‬امتيازي‭ ‬بصداقة‭ ‬قصي‭ ‬ظلت‭ ‬مستمرة‭ ‬فنخرج‭ ‬مع‭ ‬إحساسي‭ ‬بأن‭ ‬قصي‭ ‬يبتعد،‭ ‬انتهى‭ ‬الأمر‭ ‬بانتحاره‭ ‬بصمت،‭ ‬قبل‭ ‬موته‭ ‬المأساوي،كنت‭ ‬قد‭ ‬انتقلت‭ ‬إلى‭ ‬مدرسة‭ ‬متوسطة‭(‬‭ ‬متوسطة‭ ‬بغداد‭ ) ‬في‭ ‬حي‭ ‬دراغ‭ ‬مجاورة‭ ‬لبيت‭ ‬رئيس‭ ‬الوزراء‭ ‬الأسبق‭ ‬طاهر‭ ‬يحيى،‭ ‬ابنه‭ ‬الكبير‭ ‬غسان‭ ‬أو‭ ‬ابن‭ ‬آخر‭ ‬له،‭ ‬كان‭ ‬زميلنا‭ ‬في‭ ‬المدرسة،‭ ‬لكن‭ ‬الكارثة‭ ‬في‭ ‬بناته،‭ ‬بناته‭ ‬جميلات‭ ‬أنيقات‭ ‬مؤدبات‭ ‬متواضعات‭ ‬ضاحكات‭ ‬محبات‭ ‬للحياة‭. ‬كانت‭ ‬المسافة‭ ‬كما‭ ‬قلت‭ ‬بين‭ ‬البيت‭ ‬والمدرسة‭ ‬بعيدة‭ ‬وهي‭ ‬أيضا‭ ‬فضاء‭ ‬خال،‭ ‬وهي‭ ‬المقابلة‭ ‬اليوم‭ ‬لمول‭ ‬المنصور،‭ ‬وتشاء‭ ‬الصدف‭ ‬والأقدار‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬زميلي‭ ‬على‭ ‬الرحلة‭ ‬الصفية،‭ ‬فتى‭ ‬مسيحي‭ ‬اسمه‭( ‬ضياء‭ ‬كامل‭ )‬،‭ ‬وبيته‭ ‬ليس‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬بيتنا‭ ‬فنقصد‭ ‬المدرسة‭ ‬ونعود‭ ‬على‭ ‬الأغلب‭ ‬سوية،‭ ‬ضياء‭ ‬بجسم‭ ‬نحيف‭ ‬ووجه‭ ‬مدور‭ ‬صغير‭ ‬لكن‭ ‬بعينين‭ ‬دامعتين‭ ‬كثعلب‭ ‬وقع‭ ‬في‭ ‬فخ،‭ ‬اقترب‭ ‬ضياء‭ ‬مني‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬ما‭ ‬مثلما‭ ‬فعل‭ ‬قصي‭ ‬ومضت‭ ‬الأيام‭ ‬وكأنها‭ ‬تهرب‭ ‬من‭ ‬شيء‭ ‬ما،‭ ‬أنهيت‭ ‬الدراسة‭ ‬المتوسطة‭ ‬واختار‭ ‬أهلي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬حالي‭ ‬كحال‭ ‬اخوتي‭ ‬فذهبت‭ ‬بعيدا‭ ‬إلى‭ ‬إعدادية‭ ‬النضال،‭ ‬وفي‭ ‬أحد‭ ‬الأيام‭ ‬لمحت‭ ‬لافتة‭ ‬سوداء،‭ ‬اقتربت‭ ‬منها‭ ‬وقلبي‭ ‬يخفق‭ ‬إذ‭ ‬رأيت‭ ‬اسم‭( ‬ضياء‭ ‬كامل‭ )‬،‭ ‬لقد‭ ‬انتحر‭ ‬ضياء‭ ‬أيضا،‭ ‬ثم‭ ‬ترك‭ ‬أهله‭ ‬المنطقة‭ ‬وباعوا‭ ‬بيتهم‭. ‬تعمدت‭ ‬اليوم‭ ‬المرور‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬أطلال‭ ‬بيتي‭ ‬قصي‭ ‬وضياء،‭ ‬عبثا،‭ ‬لم‭ ‬أتعرف‭ ‬على‭ ‬البيتين،‭ ‬ربما‭ ‬يكون‭ ‬بيت‭ ‬ضياء‭ ‬على‭ ‬حاله‭ ‬تقريبا،‭ ‬لكن‭ ‬بيت‭ ‬قصي‭ ‬أو‭ ‬الزقاق‭ ‬بكامله‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬شيء‭ ‬تجاري‭.‬

للبيوت‭ ‬أرواح‭ ‬وقصص،‭ ‬تحكيها‭ ‬الأبواب‭ ‬والأحجار‭ ‬وأرواح‭ ‬متعبة‭ ‬تهوم‭ ‬حول‭ ‬المكان‭ ‬مثلما‭ ‬قرأت‭ ‬هذا‭ ‬التناظر‭ ‬بين‭ ‬بيتين‭ ‬متلاصقين،‭ ‬بمساحتين‭ ‬كبيرتين،‭ ‬تتجاوز‭ ‬أل600‭ ‬متر‭ ‬لكل‭ ‬منهما،‭ ‬كان‭ ‬أحدهما،‭ ‬الذي‭ ‬على‭ ‬اليمين،‭ ‬قبل‭ ‬عشرين‭ ‬عاما‭ ‬وأكثر‭ ‬يعج‭ ‬بمظاهر‭ ‬الأهمية‭ ‬ومباهج‭ ‬الحياة‭ ‬وحتى‭ ‬السلطة،‭ ‬عكس‭ ‬الآخر‭ ‬الملاصق‭ ‬له،‭ ‬كئيبا،‭ ‬غامضا،‭ ‬بابه‭ ‬الضيقة‭ ‬عليها‭ ‬لافتة‭ ‬خشبية‭ ‬وفوقها‭ ‬لوحة‭ ‬معدنية‭ ‬لصاحب‭ ‬البيت‭ ( ‬فلان‭…‬العكام‭ ) ‬وفي‭ ‬الطابق‭ ‬العلوي‭ ‬قطعة‭ ‬كبيرة‭( ‬المحامي‭ ‬ابن‭ ‬فلان‭ ‬العكام‭ )‬،‭ ‬البيت‭ ‬الأول‭ ‬يعود‭ ‬لرجل‭ ‬يدعى‭(…. ‬الحبوبي‭ )‬،‭ ‬أظن‭ ‬سوء‭ ‬حظه‭ ‬يعود‭ ‬لاختياره‭ ‬السياسي‭ ‬حيث‭ ‬عمل‭ ‬كمعاون‭ ‬أو‭ ‬ناطق‭ ‬باسم‭ ‬أياد‭ ‬علاوي‭ ‬وحركة‭ ‬الوفاق،‭ ‬اختفى‭…. ‬الحبوبي‭ ‬وبدأ‭ ‬بيته‭ ‬يتقادم‭ ‬ويتدهور،‭ ‬لم‭ ‬ينجح‭ ‬مشروعه‭ ‬مع‭ ‬علاوي‭ ‬كما‭ ‬أظن‭ ‬وربما‭ ‬مات‭ ‬الرجل،‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬حال،‭ ‬مررت‭ ‬بالبيتين‭ ‬هذا‭ ‬اليوم،‭ ‬فكان‭ ‬الأمر‭ ‬معكوسا،‭ ‬بيت‭ ‬العكام‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬قصر‭ ‬فخم‭ ‬أو‭ ‬مجموعة‭ ‬شقق‭ ‬متلاصقة‭ ‬مرصوفة‭ ‬بالحجر‭ ‬الأبيض‭ ‬الجبلي‭ ‬الأنيق‭ ‬والأبواب‭ ‬والأسوار‭ ‬الحديدية‭ ‬العباسية‭ ‬بلون‭ ‬أخضر‭ ‬هادئ،‭ ‬أحد‭ ‬هذه‭ ‬البيوت‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬عيادة‭ ( ‬عيادة‭ ‬الدكتورة‭ ‬فلانة‭ ‬ابنة‭ ‬فلان‭ ‬العكام‭ ) ‬أما‭ ‬البيت‭ ‬الآخر‭ ‬فلقد‭ ‬تقسم‭ ‬أيضا‭ ‬ويتم‭ ‬العمل‭ ‬فيه‭ ‬بشكل‭ ‬فوضوي،‭ ‬هناك‭ ‬بؤس‭ ‬ترويه‭ ‬أرجاء‭ ‬البيت‭ ‬الذي‭ ‬غدا‭ ‬بلا‭ ‬هوية،‭ ‬غير‭ ‬هوية‭ ‬الخسارة‭ ‬والفشل‭. ‬كما‭ ‬قلت،‭ ‬لمحت‭ ‬روحا‭ ‬متعبة‭ ‬وروحا‭ ‬أخرى‭ ‬هانئة‭ ‬فخورة،‭ ‬ترفرف،‭ ‬تحط‭ ‬وتبتعد‭ ‬عن‭ ‬الصرحين‭.‬

تستمر‭ ‬الحكايات‭ ‬وهي‭ ‬تخرج‭ ‬من‭ ‬الأبواب‭ ‬فلا‭ ‬أستطيع‭ ‬اللحاق‭ ‬بها،‭ ‬أهرب‭ ‬من‭ ‬بيوت‭ ‬سكنتها‭ ‬هنا‭ ‬وهناك‭ ‬ووجدت‭ ‬نفسي‭ ‬قد‭ ‬عدت‭ ‬غربا،‭ ‬حيث‭ ‬الحي‭ ‬التجاري‭ ‬بمولاته‭ ‬ومحلاته‭ ‬وماركيتاته،‭ ‬فكرت‭ ‬بغم‭ ‬بموظف‭ ‬التعداد‭ ‬الذي‭ ‬زارنا‭ ‬قبل‭ ‬يومين،‭ ‬وهو‭ ‬شاب‭ ‬ضئيل‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬ملفتة‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬أقول‭ ‬مضحكة،‭ ‬لكنه‭ ‬مثل‭ ‬الذين‭ ‬أشرت‭ ‬لهم‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الوصلة،‭ ‬مكهرب‭ ‬بسلطة‭ ‬ما‭ ‬يحاول‭ ‬فرضها،‭ ‬سيكارته‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تفارق‭ ‬يده‭ ‬مثل‭ ‬سوني‭ ‬ابن‭ ‬كورليوني‭ ‬في‭ ‬فيلم‭ ‬العراب‭ ‬وبدلته‭ ‬بالقطع‭ ‬الثلاث‭ ‬الرصاصية‭ ‬وربطته‭ ‬ونظرته‭ ‬الذئبية‭ ‬المتعالية،‭ ‬عندما‭ ‬دخل‭ ‬البيت،‭ ‬قلت‭ ‬في‭ ‬نفسي،‭ ‬هذا‭ ‬أعرفه‭ ‬وهو‭ ‬بادلني‭ ‬بنفس‭ ‬النظرة‭ ‬لكنها‭ ‬تقدح‭ ‬بثأر‭ ‬قديم‭ ‬أو‭ ‬تكريس‭ ‬لتلك‭ ‬السلطة،‭ ‬ظننته‭ ‬من‭ ‬أصدقاء‭ ‬ابني‭ ‬أخي‭ ‬فهو‭ ‬في‭ ‬عمرهما،‭ ‬شأنه‭ ‬شأن‭ ‬موظف‭ ‬التعداد‭ ‬الأول‭ ‬والذي‭ ‬كان‭ ‬مهذبا‭ ‬جدا‭ ‬وقد‭ ‬اصطحبه،‭ ‬عبودي،‭ ‬ابن‭ ‬أخي،‭ ‬لما‭ ‬خرج‭ ‬هذا‭ ‬الموظف‭ ‬المتعالي‭ ‬سألت‭ ‬عنه‭ ‬لغرض‭ ‬التأكيد‭ ‬كونه‭ ‬من‭ ‬شباب‭ ‬الحي،‭ ‬فكان‭ ‬الجواب‭ ‬بالنفي،‭ ‬إذن‭ ‬أين‭ ‬عرفته‭ ‬وماسر‭ ‬تلك‭ ‬النظرات‭ ‬بيننا،‭ ‬نسياني‭ ‬لوجه‭ ‬أعرفه‭ ‬يدق‭ ‬جرس‭ ‬خطر‭ ‬الشيخوخة‭ ‬عندي،‭ ‬أنت‭ ‬تفقد‭ ‬مؤهلاتك‭ ‬وربما‭ ‬سلاحك‭ ‬الأمضى‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الوجود،‭ ‬ذاكرتك‭. ‬طوال‭ ‬أيام‭ ‬نغص‭ ‬هذا‭ ‬الوجه‭ ‬الذي‭ ‬أعرفه‭ ‬ولا‭ ‬أعرفه‭ ‬نغص‭ ‬شيئا‭ ‬مضافا‭ ‬لهدوئي‭ ‬الوجودي‭ ‬القلق‭.‬

وجدت‭ ‬نفسي‭ ‬وأنا‭ ‬أهم‭ ‬بالرجوع‭ ‬أمر‭ ‬تحت‭ ‬أقواس‭ ‬عمارة‭ ‬الجادرجي،‭ ‬فهبط‭ ‬علي‭ ‬وجه‭ ‬موظف‭ ‬العداد‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬أصله‭ ( ‬بلا‭ ‬عمله‭ ‬السلطوي‭ )‬،‭ ‬تذكرته‭ ‬يتردد‭ ‬علي‭ ‬فطردته‭ ‬مرة‭ ‬لسبب‭ ‬ما‭. ‬في‭ ‬أيام‭ ‬الحرب‭ ‬الطائفية‭( ‬بعد‭ ‬عام‭ ‬2005‭) ‬وحتى‭ ‬لا‭ ‬أبارح‭ ‬منطقتي،‭ ‬أصبحت‭ ‬أدير‭ ‬دكانا‭ ‬في‭ ‬عمارة‭ ‬الجادرجي‭ ‬لبيع‭ ‬الحاسبات‭ ‬ومستلزماتها‭ ‬ومع‭ ‬الدكان‭ ‬برج‭ ‬للانترنيت‭ ‬ولي‭ ‬خطوط‭ ‬ومشتركون،‭ ‬وكان‭ ‬موظف‭ ‬التعداد‭ ‬أحد‭ ‬الزبائن‭ ‬المزعجين،‭ ‬تنفست‭ ‬الصعداء،‭ ‬وعدت‭ ‬للبيت‭ ‬متقمصا‭ ‬شخصية‭ ‬أمي،‭ ‬فخلفي‭ ‬عربة‭ ‬محملة‭ ‬بالوجوه،‭ ‬يدفعها‭ ‬زمن‭ ‬عابث،‭ ‬لكن‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يهتم‭ ‬بحمولتي‭ ‬ويشاركني‭ ‬إفراغها‭.‬

‭ ‬

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *