دور حزب البعث العربي الاشتراكي منذ تأسيسه حتى 14 تموز 1958
الكتاب الكارثة
ـ عندما اختار زميلي عادل غفوري عنوان رسالته للماجستير في العلوم السياسية العام 1976 (أحزاب المعارضة العلنية في العراق 1946 ـ 1958).. فكرتُ (أنا) حالاً أن أتناول (أحزاب المعارضة السرية في العراق حتى العام 1958
ـ استفهمتُ من أستاذي الدكتور صادق الأسود عن هذا الموضوع فشجعني.. مؤكداً انه موضوعاً جديداً ومهماً
– لكنه لفتً نظري إلى وجود عقبة.. هي: عدم وجود مصادر أساسية عن هذين الحزبين.. سوى في مديرية الأمن العامة.. لأنهما سريان.. وقد سبق ان كشفا دوائر الامن بعض بيوتها الحزبية وصادرت مطبعهما ومنشوراتهم وغيرها واعتقلت من كان موجوداً في هذه البيوت.. فلم يعد يبقون أرشيفا أو وثائق لديهم.. خشية انكشافها من قبل الامن
ـ إذن لابد أن أحصل على موافقة هذه المديرية في الاطلاع على وثائق هذين الحزبين.. الموجودة لديها قبل تسجيل الموضوع
ـ راجعتُ دائرة الأمن العامة ببغداد.. وسلمتهم طلباً بالأمر.. وبعد أسبوع طلبوني.. وقابلتُ مديرها العام فاضل البراك.. سألني في بداية الأمر من هي الأحزاب السرية التي ستتناولها.. أجبته.. الحزبان: الشيوعي والبعث.. وبعد مناقشة مستفيضة معه.. قال: “أنصحكً تناول حزب البعث فقط.. لأننا لا نرغب بالكتابة عن الحزب الشيوعي
ـ خرجتُ منه.. وقررتٌ العزوف عن الكتابة عن الأحزاب أصلاً سرية كانت أو علنية.. وبدأتُ أبحث عن موضوع جديد.. ولم يمضِ شهران حتى أبلغني السيد صالح “مسؤول أمن الكلية” بمراجعة مديرية الأمن بناءً على طلبها
ـ وهناك قابلتُ البراك ثانيةً.. واستفسر مني عن رسالتي.. فقلتُ له: إنني سأكتب عن (الاتحاد الدولي للعمال العرب.. فأنا موظف في مؤسسة الثقافة العمالية.. والمفروض أن أقدم شهادتي بما يخدم مؤسستي
ـ حدقً في وجهي غاضباً.. وقال بلغناك أن تكتب عن حزب البعث.. قلتُ له: أنت قلتً ليً أنصحك.. وأنا وجدتُ هذا الموضوع أفضل لي ولعملي
ـ قال بصوت عال نحن كلفناكً بالكتابة عن حزب البعث.. وهو تكليف رسمي أبلغتكً به
ـ وهكذا أصبحتُ أمام واقع جديد.. لكنني بقيتُ ثلاثة أشهر أفكر في الموضوع.. أخيراً وجدتُ الحل إن البعث يعلن انه “حزب قومي واشتراكي”.. إذن أبق على نفس موضوعي وأتناول.. التيار الاشتراكي.. ممثلا بالحزب الشيوعي.. والتيار القومي.. ممثلا في حزب الاستقلال.. ومن ثم أناقش البعث ومسيرته حتى 14 تموز 1958 .. فـأتخلص من اية اشكالية قد ترد في رسالتي.. خاصة ان استاذي الدكتور وميض عمر نظمي.. اكد لي ان المعلومات حتى هذا التاريخ تكفي لرسالة ماجستير إنموذجية
ـ قابلتُ 104 من قيادات أحزاب البعث والشيوعي والاستقلال القدماء.. وحصلتُ على معلومات غاية في الأهمية في سيرة ونشاط هذه الأحزاب منذ تأسيسها حتى 14 تموز 1958.. مثلما نقبتُ في أضابير البعثيين والشيوعيين والقوميين في الأمن العامة.. وجمعتُ معلومات لا يعرفها حتى قادة هذه الاحزاب.. واطلعتُ على كل البيانات الصادرة من تلك الاحزاب ونشاطاتها واسماء قادتها.. وخلاياها وتنظيماتها
ـ وذلك بشكل متواصل وبلا انقطاع لمدة 4 أشهر.. يومياً من الصباح الباكر حتى التاسعة ليلاً بضمنها أيام الجمع
ـ جاءت رسالتي متوازنة من حيث فصولها.. لكن الحزب الشيوعي أخذ صفحات كثيرة لطول فترة نشاطه 1934ـ 1958.. فيما حزب البعث تأسس في العراق العام 1950.. ونشاطه الفعلي على الصعيد السياسي والجماهيري بدأ بعد تأسيس حلف بغداد 1955.. وتوسع خلال العدوان الثلاثي على مصر العام 1956
ـ كما إن برنامج الحزب الشيوعي واضح وعملي.. فيما لا يوجد حتى العام 1963 نظرية وفكراً.. أو برامج واضحة للبعث.. حسب ما اعترف به هذا الحزب في مؤتمره السادس المنعقد العام 1963.. معتمدين في فكرهم على مقالات ميشيل عفلق التي كانت في غالبيتها عامة.. وليس لها علاقة لها بفكر حزب
ـ وهكذا أنجزت رسالتي حتى 14 تموز 1958.. وحصلتُ على درجة الامتياز.. مع توصية لجنة المناقشة على طبعها على نفقة جامعة بغداد
ـ عندما نشرتُ رسالتي للماجستير هذه.. (دور حزب البعث في العراق حتى 14 تموز 1958).. ككتاب في أوائل العام 1980.. نفدت كل نسخه من المكتبات البالغة 10 آلاف نسخة خلال ثلاثة شهور.. فلم يكن للبعث تاريخ.. فأصبح هذا الكتاب تاريخاً ومنهجاً للحزب
ـ كما إن الشيوعيين ساهموا باقتناء الكتاب.. للاطلاع على تاريخ حزبهم.. الذي لا يوجد لديهم حتى تلك الفترة أي كتاب علمي يتناول تاريخ حزبهم.. بتلك العلمية والحيادية
الطبعة الثانية:
ـ جاءني ناشر الكتاب “هاشم العزاوي.. صاحب مكتبة الشرق الجديد.. طالباً مني طبع الكتاب طبعة ثانية.. فوافقت.. وحصل الناشر على موافقة رقابة المطبوعات العراقية في طبع الكتاب ثانية
ـ بعد شهرين أبلغني العزاوي: إن الكتاب جاء من بيروت.. وتم حجزه في الدار الوطنية للتوزيع.. لا يعرف سبب الحجز.. من جانبي راجعتُ الدار الوطنية التي أبلغتني بمنع الكتاب
فراجعتُ دائرة رقابة المطبوعات لأستفهم عن الموضوع.. أبلغني مديرها العام سامي الموصلي: بان الكتاب منع بأمر من مدير عام أمانة سر القطر “علي حسن المجيد”.. بحجة وجود ملاحظات عليه.. مثبتينً (37 ملاحظة.. بعضها خطيرة)
ـ خاصة في موضوع التعاون بين البعث والشيوعي.. كذلك وجود أسماء المتآمرين في مؤامرة تموز 1979 من قياديي البعث كعبد الخالق السامرائي ومحمد عايش والآخرين.. “طبعاً لم أكن أعرف من هو: علي حسن المجيد
ـ المهم اطلعتُ على نقاط المنع.. وجدت اغلبها غير موجودة في الكتاب.. وبعضا غير جديرة.. بل تم تفسيرها بغير حقيقة ما مثبت بالكتاب
ـ قدمتُ طلبا للسيد وزير الثقافة والإعلام.. ابلغه بأن كل النقاط التي ثبتت على الكتاب.. وتم على أساسها منع الكتاب.. غير موجودة في كتابي.. أحال الوزير الأمر لرقابة المطبوعات التي إحالته لخبيرين وجاء جوابهما بصحة كلامي.. فأمر الوزير بإطلاق سراح كتابي
ـ راجعتُ الدار الوطنية لاستلام نسخ الكتاب الخمسة آلاف.. لكن المفاجأة غير المعقولة حتى المجنون لا يصدقها.. هي إن كل نسخ كتابي.. تم إحراقها بأمر من عبد الجبار محسن “وكيل وزارة الثقافة والإعلام.. والمشرف على الدار الوطنية آنذاك”.. وأنا متأكد إن عبد الجبار محسن ليس لدية القوة ولا الصلاحية ليأمر بحرق كتاب.. بالتأكيد جاءت أوامر عليا بالحرق.. لا أدري هل كتابي ككتاب سلمان رشدي “آيات شيطانية” الذي أحرق كتابه.. وهدر دم صاحبه ؟؟؟
ـ بقيتُ بين مشدوهاً.. وبين خوف شديد.. ماذا في الكتاب؟؟ ولماذا أحرق؟؟.. حقاً .. كنتُ ولا زلتُ
أؤمن بأن الحياة: عدالة.. وشجاعة.. وصبر.. وان الله مع الصابرين
ـ كتبتُ طلباً للسيد الوزير بأن الدار الوطنية أهملت الكتاب وأحرقته.. أحال الوزير الطلب الى الوكيل الثاني للوزارة (نزار حمدون).. وهو إنسان هادئ ومحترم
ـ يبدو إن الوكيل كانت لديه صورة كاملة عن الموضوع.. فقال لي: لا عليك بالأمر.. ليجلب الناشر وصولات بتكاليف الكتاب والمصروفات التي صرفها.. ويستلمها مباشرة.. وأترك الموضوع.. وهذا ما تم فعلاً
ـ ليتم بعد مدة قصيرة تجميدي من العمل.. وسحبت سكرتيرتي مني
ـ ونقلت من مكتبي الى غرفة صغيرة من بين ثلاثة غرف صغيرة متراصة .. مخصصة للمسؤولين المعاقبين
ـ ليصدر تعميم من دائرتي “دائرة الإعلام الخارجي بوزارة الإعلام”.. لم يصدر مثله في تاريخ العراق الحديث حتى اليوم.. موجه الى وزارة التعليم العالي والى الجامعات.. والمعاهد الحكومية والأهلية.. يمنع فيه إلقاء هادي حسن عليوي محاضرات في الجامعات والكليات والمعاهد (الحكومية والأهلية) صباح مساء.. مبررين ذلك “لان دائرتنا تمنحه مخصصات عمل إضافية 30 %”….. يا للمهزلة.. وبقيتُ على هذه الحال.. بلا عمل
ـ العام 1982 أعلن عن حصول الرفيق المناضل (علي حسن المجيد) على شهادة الماجستير عن أطروحته (التراث النضالي لحزب البعث العربي الاشتراكي).. من كلية الدفاع الوطني في جامعة البكر.. (ملاحظة هذا المجيد لم يكن حاصلاً على شهادة المتوسطة)
ـ وما هي إلا أشهر قليلة.. لتوزع رسالته مطبوعة بكتاب أنيق في المكتبات
ـ صديق صاحب مكتبة في شارع المتنبي سحب نسخة من كتاب المجيد.. وناولها ليً.. مددتُ يدي لأدفع له سعر الكتاب.. ضحك وقال: وزعوها علينا مجاناً
ـ الطامة الكبرى
ـ قرأتُ الكتاب.. لأصاب بالدوران.. وهل يعقل هذا من قادة في حزب يقود دولة ؟؟؟؟ هل لا يوجد من يكتب لهم ؟؟؟؟
ـ إن الفصلين الأول والثاني في كتاب علي المجيد (علي كيمياوي) هذا.. هما نص الفصليين الثاني والثالث من كتابي (دور حزب البعث …………. هذا).. حتى الأخطاء المطبعية في كتابي لم يصححها في كتابه.. ضحكتُ وأنا غير مصدق
ـ وهكذا عرفتُ سبب حرق كتابي.. وحمدتُ الله بأن القضية انتهت بحرق الكتاب فقط
ـ العام 1984 وأنا أتجول في شارع المتنبي أجد كتابي هذا مطبوعاً من جديد.. دون أن يكتب عليه “الطبعة الثانية” وغلافه بتصميم آخر.. أخذتُ نسخة لأجده قد تم شطب أسماء البعثيين الأوائل المشاركين بمؤامرة تموز 1979.. كذلك تم تقليص نشاط الحزب الشيوعي والتعاون بين البعث والشيوعي.. هكذا يكتب تاريخنا بأوامر عليا.. ومن لا يعجبه يكون مصيره مصير: عزيز سيد جاسم
أو بأقل درجة مثل هادي حسن عليوي.. يحمل شهادة الدكتوراه.. ويمنع من إلقاء المحاضرات في الجامعات والمعاهد (الحكومية والأهلية).. ويمنع من السفر الى الخارج.. ليبيع كتب ومجلات على الأرض في الكليات والجامعات
ـ هكذا يتم إذلال العلماء.. في الزمن الجميل كما يقال