محمد الكلابي

حين سقطت بابل، ظنّ الغزاة أنهم أحرقوها، لكنهم لم يعرفوا أن الرماد يخبئ بذور العودة، وأن المجد لا يُمحى بالنار بل يُبعث منها. وحين أُحرقت مكتبة آشور بانيبال، لم يعلموا أن الكلمات لا تموت، بل تظل تتردد في صدور الرجال الذين لم يولدوا بعد. التاريخ ليس أوراقًا تُطوى، بل أرواح تسير بيننا بأسماء جديدة، بملامح لا يخطئها الزمن.

وحارث السوداني؟

لم يكن مجرد رجلٍ في زمن الحرب، كان الصفحة التي أُعيدت إلى كتاب العراق حين حاولوا تمزيقه، كان الصوت الذي مضى حيث لا يجرؤ الآخرون، كان الغريب الذي مشى بينهم وهو يعرف أن نهايته مكتوبة، لكنه مضى إليها كما لو كان هو من يكتبها.

يا ابن بغداد، يا من كنت آخر الطلائع حين ظنّوا أن الحراس قد ناموا، يا من كنت الوجه المختبئ بين الظلال، لكنك لم تكن ظلًّا، كنت النور الذي أطلّ في اللحظة الأخيرة ليكشف كل شيء.

لقد كنت هناك، خلف الأبواب التي لا تُفتح إلا لمن يُخضعها، في الدروب التي لا يسير فيها إلا من يعرف أن العودة ليست قدره. لم تكن عينًا تراقب، كنت القدر الذي انتظر اللحظة ليقول كلمته. كانوا يرونك واحدًا منهم، لكنهم لم يعرفوا أنك كنت عدّهم التنازلي، أنهم كانوا يمشون نحو نهايتهم بينما كنت وحدك من يرى الطريق بوضوح.

أيها العابر في أزقة الموت دون أن يتسخ بك، يا من كان صوته هادئًا لكنه ترك صدًى لم يهدأ.

كيف حملت في قلبك سرًّا لم يثقله الخوف؟ كيف وقفت في وجه العدم وأنت تعرف أن المسافة بينك وبينه ليست إلا نبضة واحدة؟ كيف خدعت النار، ثم عدت لتحرقها؟

لم تكن مجرد رجل، كنت مدينةً تمشي وحدها في ميدان المعركة. كنت صوتًا في زمن الصمت، كنت طعنةً لم يروها حتى شعروا بها. كنت الطوفان الذي تسلل من بين شقوق سدّهم العظيم، فلما رأوه، كان قد فات الأوان.

لقد رحلت، لكنك لم تذهب، لقد غبت، لكنك لم تُمحَ. من قال إن الموت يُنهي العظماء؟ من قال إن جسدًا يسقط يعني أن اسمه قد انطفأ؟ بغداد تعرف أبناءها، تحفظهم كما تحفظ ضوء الصباح في ماء دجلة، تبقي وجوههم في دروبها، تترك أصواتهم تتردد بين جدرانها، لا تُطفئ ذكراهم حتى لو أراد العالم ذلك.

أنا أغبطك يا حارث، لأنك كنت ممن نالوا أرفع الدرجات، لأنك أدركت المعنى الذي لا يصل إليه إلا من سلك درب التضحية الكبرى. أغبطك لأنك لقيت الموت واقفًا، نقيًا، لأنك أعطيته يدك دون أن ترتجف، لأنك جعلته طريقًا وليس نهاية. أغبطك لأنك مضيت حيث لا يمضي إلا الأنقياء، لأنك دفعت روحك مهرًا للأرض التي أحببتها، لأنك لم تكن تبحث عن الخلود، بل كنت تبحث عن العراق، ووجدته هناك، حيث يتوقف الزمن ويبدأ المجد.

وأنا، لا أملك إلا أن أرجو، وأتمنى، وأحلم، أن يكون موتي يومًا كما كان موتك، لأجل العراق، لا لأجل مجد، لا لأجل اسم، بل لأن الوطن يستحق، ولأن الأرض التي ولدتنا أولى بأرواحنا من أي شيء آخر.

سلامٌ عليك يا من اخترق العتمة فلم تبتلعه، بل ترك فيها أثرًا لا يُمحى.

سلامٌ عليك يا من لم يكن مجرد ظلٍّ عابر، بل كان السيف المختبئ في غمد الصمت.

سلامٌ عليك يا من كان وحده معركتهم الكبرى، ويا من صار اسمه بعد رحيله رايةً لم تُنكّس.

سلامٌ عليك يا ابن العراق، يا مَن لم يكن ترابًا في الأرض، بل كان جذعًا في جذورها، ثابتًا حيث لا يُرى، ممتدًا حيث لا يطوله الخراب.

أما آن للزمن أن يفهم أن بعض الأسماء لا تموت، بل تتحول إلى نبوءاتٍ خالدة؟

أما آن للموت أن يدرك أنه حين اختارك، لم يظفر بك، بل أطلقك في سماءٍ لا تغيب عنها الشمس؟

نم قرير العين، لأنك لم تُهزم، بل كنت النصر الذي لم يفهموه إلا بعد فوات الأوان.

قبل aktub falah

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *