حالة المشاهدة لفيلم شادي عبد السلام «كرسي توت عنخ آمون الذهبي»، بعد أربعين سنة على إنتاجه، مثيرة للدهشة. عرض الفيلم في الدورة الثالثة والعشرين لمهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة (17 ـ 23 مارس 2022). الموت غيّب مخرجه الذي توفي عام 1986، وحضر «بطل» الفيلم خبير الآثار الدكتور محمود مبروك، ومونتيرة الفيلم الدكتورة رحمة منتصر. العرض، هنا والآن، ليس أقل من «حالة»، كأني أشاهده للمرة الأولى، وهي الأولى كمشاهدة على شاشة سينما. ويبدو أن أفلام السينما تظلمها الشاشة الصغيرة، وأن ما صنع للسينما ينبغي أن تتم مشاهدته بقواعد المشاهدة السينمائية.
أنتج الفيلم عام 1982، وعرض المهرجان نسحته المرممة بمناسبة مئوية اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون، عام 1922. مقبرة وحيدة نجت من لصوص المقابر الملكية عبر التاريخ، وأفلتت من سطو شرع فيه مكتشف المقبرة هاوارد كارتر، لولا يقظة الحكومة المصرية بعد استقلال «نسبي» حققه تصريح 28 فبراير 1922. كارتر، الذي كرّمه المخرج المصري يوسف فرنسيس بفيلم «البحث عن توت عنخ آمون»، كان ليحيى حقي فيه رأي آخر. قال عن كارتر:
«كنا نخطئ أشد الخطأ في حسن الظن به، كنا مغشوشين ومغفلين ونحن لا ندري، لم نر إلا الطلاء، لم نر ما تحته من معدن خسيس منحط.. إن أبذأ لغة، أقدرُ عليها مكرها، ستصبح ناعمة كالحرير إذا قيست إلى خشونة فعلته… يدل على خراب الذمة والنهم ورغبة الخطف والسرقة، ليس للميت عنده حرمة، حتى لو كان من عامة الناس، فما بالك بفرعون مصر! ما بالك بالرجل الذي سيمنح هذا الخسيس شهرة لم يبلغها عالم آخر في بلده!.. ينبغي أن نرجع القهقرى فنبلغ أيام هولاكو وتيمور لنك لنرى مثيلا لهذا الأستاذ العظيم.. انظر إلى هذا النمط السافل الدنيء كيف سوغ له ضميره، كيف رضيت له إنسانيته أن يجمع أشلاء «توت» المتناثرة ثم يضعها في صندوق خشبي للسكر وربما «سنترفيش» أيضا، كأن هذه الأشلاء بقايا خردة أو روبابيكيا أو نفاية قمامة… إن لصوص المقابر أشرف منه، لأنهم سرقوا ولم يعبثوا بالجثث كما فعل هو.. وبقيت فعلته كارثة مجهولة لدينا، فلم نعلمها إلا حين أعيد فتح التابوت أخيرا للكشف بالأشعة على توت عنخ آمون». (المساء 16 ـ 12 ـ 1968 / كتاب «صفحات من تاريخ مصر»).
لنترك كارتر ويوسف فرنسيس وفيلمه ويحيى حقي؛ فمقتنيات توت عنخ آمون في حوزتنا، ونحن أقدر على صيانتها، والأيدي المصرية ترممها، والكاميرا وثقت دراميا هذا الترميم الذي أنجزه سمير أباظة، أحد ورثة الفنانين المصريين القدماء.
فيلم شادي عبد السلام ذو شجون. توثق اللقطة الأولى معالم قديمة بميدان التحرير، جسر المشاة والمظلة. كما توثق الجملة الحوارية الأولى للطفل صلاح (اسمه الحقيقي هيثم عبد الحميد) موقفا نفسيا للمصريين من المتاحف، وما يرتبط بالحضارة المصرية. الطفل يسأل عمه: «هو ده المتحف؟». كم مرّ الصبي بالمتحف، ولم يدخله. هكذا لا تزال المتاحف والمواقع الأثرية غريبة على معظم المصريين، لا تصالُح بين الشموخ والانضباط والنظافة في الداخل، والخوف والعشوائية في الشارع، خارج السور مباشرة. لا تفاعل يمنح المصري الحق في الانتساب إلى تاريخه وحضارته وآثاره أكثر من «حراسة» هذا الماضي، مع تراجع الوعي به. تفاعلات الجهل والخوف والعشوائية تؤدي إلى فخر زائف، يقترن بأفعل التفضيل دائما.
في 43 دقيقة استطاع شادي عبد السلام، وفريق الفيلم: ماهر راضي مدير التصوير، وصلاح مرعي مهندس المناظر، تقديم ملامح لمصر القديمة. المخرج تحرر من العربية الفصحى التي اعتمدها في فيلمه الروائي الطويل «المومياء» وفيلمه القصير «شكاوى المصري الفصيح». تفسير رحمة منتصر أنه لجأ إلى العامية المصرية للوصول إلى قلوب البسطاء. وظل مخلصا لنهجه المعتمد على اللقطات المركبة الطويلة نسبيا، وتمزج بين لقطات مشهدية عامة لمحتويات المتحف، ولقطات متوسطة، وأخرى قريبة كلما رصدت الكاميرا ردود أفعال الطفل.
وبنعومة يقدم الفيلم نسغا من المعرفة والمتعة للمشاهد، فيعرف من إجابة العم الأثري عن أسئلة الطفل أن الكرسي الذهبي يتكون من 31 قطعة تقريبا، ويخلو من المسامير؛ لاعتماد تصميمه على التزواج بين البروزات والتجاويف، ابتكارا لنظرية العاشق والمعشوق. والتمهل الذي تتهادى به الكاميرا يناسب أناة وصبرا من المرمم منذ ستة أشهر، وبقي أمامه شهران حتى ينتهي من ترميم الكرسي، ليمضي إلى مكانه، في موكب تزداد مهابته بالموسيقى التصويرية لجورج كازازيان.
توثيق ترميم الكرسي الذهبي للملك توت لا يقل أهمية عن لحظة اكتشاف المقبرة. التوثيق وقاية للأثر من العبث، يجنبه احتيالات النهب بالسرقة أو التبديل، ولو أتيح ذلك عام 1912 لنجا الرأس البديع لتمثال الملكة نفرتيتي. في ديسمبر 1912 عثر أثريون ألمان برئاسة لودفيج بورخارت على تمثال نفرتيتي في تل العمارنة، موقع مدينة أخيتاتون التي أنشأها أخناتون عاصمة لمصر. وتمكن بورخارت من خداع الطرف المصري، ليكون التمثال من نصيب ألمانيا، زاعما أن التمثال لأميرة لا لنفرتيتي، وتماديا في التدليس أخفاه في ألمانيا عشر سنوات. ولم تفلح محاولات إعادته إلى مصر.
ببساطة خادعة يعرف الطفل أن الملك توت تولى الحكم في سن التاسعة. يقول العم: «كان قدّك كده»، وإن عمر الكرسي الذهبي 3200 سنة. كما يعرف معلومات عن الهرم الأكبر الذي يحمل اسم الملك خوفو، وأن لأم الملك خوفو كرسيا آخر أقدم عمرا بالطبع، وأن المصريين القدماء لم يكونوا عمالقة في بنيتهم الجسدية، وإنما نحن نشبههم، وأن الملك توت سبقه نحو تسعين «فرعونا»، وتلاه حوالي خمسين «فرعونا». وكان الفيلم فرصة لإزالة اللبس حول لفظ «فرعون» الذي لم يكن اسما لملك مصري، ولا لقبا لحاكم من المصريين. وبسبب الكتب المقدسة، وربما الرغبة المزمنة في انتقام اليهود من مصر، صارت كلمة «فرعون» دليلا عن الغطرسة والطغيان، وعنوانا على «الفرعنة».
أمر آخر تمنيت لو تجنب الفيلم حسمه بهذا اليقين. قول العم الأثري للصبي إن أخناتون «أخو توت عنخ آمون». جملة حوارية لا تضيف شيئا إلى الفيلم، ولا إلى الكرسي. كانا في الطابق الأرضي بالمتحف، أمام تمثال لأخناتون، ثم صعدا وأطلا على تمثال صرحي للملك أمنحتب الثالث وزوجته الملكة تي، وقال العم إن أمنحتب الثالث «أبو أخناتون وتوت غنخ آمون». وقد فتح الفيلم بابا لاحتمال أن يكون أمنحتب الثالث جد توت عنخ آمون، بسؤال الصبي لعمه: «وأنت رأيك ايه؟»، فأجاب العم: «أبوه». وأغلب الظن أن أمنحتب الثالث (الذي توفي عام 1379 قبل الميلاد تقريبا) يصعب أن يكون أبا لتوت عنخ آمون (الذي ولد تقريبا عام 1370 قبل الميلاد)، والمرجح أنه ابن الملك أخناتون، وهكذا يكون حفيدا لأمنحتب الثالث.
أمر آخر أيضا زاد هذا الارتبك، بقول العم إن حكم أمنتحب الثالث كان «عصر مصر الذهبي». أمنحتب الثالث بناء عظيم، ولكن وصف العصر بالذهبي يليق أكثر بكل من تحتمس الثالث ورمسيس الثاني.
شادي عبد السلام مخرج فنان، ليس مؤرخا ولا أثريا، وفي 43 دقيقة من الدراما اختصر تواريخ وعصورا. وهذا الفيلم سوف يتخذه عموم المشاهدين، من غير المتخصصين، وثيقة تاريخية. وقد مررت بشيء من هذا في المشاهدة القديمة لفيلم «المومياء»، ففي اللوحة الأولى، وقبل ذكر «وزارة الثقافة» التي أنتجت الفيلم، يورد المخرج هذه الكلمات:
يا من تذهب ستعود
يا من تنام سوف تنهض
يا من تمضي سوف تبعث
فالمجد لك
للسماء وشموخها
للأرض وعرضها
للبحار وعمقها.
ويختتم الفيلم بهذه اللوحة:
انهض
فلن تفنى
لقد نُوديت باسمك
لقد بُعثت.
بين هذين القوسين تدور أحداث الفيلم. وظننت آنذاك أن هذا الاقتباس موجود حرفيا في كتاب «الخروج إلى النهار» الشهير بعنوان «كتاب الموتى». راجعت ترجمته القديمة عن الإنجليزية، وترجمة حديثة لشريف الصيفي من اللغة المصرية القديمة، ولم أجد هذا النص، وإنما ما يوحي به، ما استخلصه شادي عبد السلام، ووضعه في تمهيد الفيلم وختامه. والفرق كبير بين كلمات في فيلم روائي، ومعلومة يقولها أثري متخصص في فيلم وثائقي يحمل بصمات صاحبه، كما يحمل أيضا بعضا من سيرته التي هي أطول من العمر.