كل الناس من حقهم أن يعيشوا عيشا كريما، مادياً ومعنوياً، نفسا وجسدا وروحا. ويتمنى كل إنسان في الوطن العربي أن يتمتع بحريته وكرامته الإنسانية، مثله مثل غيره من البشر لمجرد كونهم بشرا.
ولكن كيف يمكن أن تتحقق هذه الأمنية بدون أن نسلط الضوء، ونكشف الحقائق، حول كل الأسباب التي تقف في طريق تحقيقها؟
إذا كانت جهودنا بحثا ودراسة تروم غاية نهائية تتصل “بالنهضة العربية” أو بعبارة أصح بعث “حالة نهضوية عربية شاملة” ماديا وإنسانيا “فهل يمكن أن يتحقق ذلك بدون نقد ما هو قائم، أي الواقع والفكر والمؤسسات؟
إن ذلك يعنى، ضمن ما يعنيه، تأسيس خطاب ذي مهمة مزدوجة:
مهمة النقد المباشر.
مهمة التحليل الشامل والعميق.
وهذه المهمة الكبرى التي يتصدى لها الكثير من المفكرين تحتاج إلى الشجاعة بقدر ما تحتاج إلى الجهد العلمي الجاد.
وإنها لشجاعة فائقة من جانب القائمين على “مشروع” دراسات الديمقراطية في البلدان العربية، اختيارهم لموضوع “الاستبداد والتغلب في نظم الحكم المعاصرة للدولة العربية” كموضوع للقاء السنوي الرابع عشر للمشروع.
وتختص هذه الدراسة بموضوع “آليات الاستبداد وإعادة إنتاجه” ويحدوها الأمل في أن تكون ومضة “تنوير” في بحث هذه الإشكالية الكبرى في حياتنا.
”منطق الحياة لم يعد يقبل استمرار صيغة توفيقية مفتعلة لواجهة ديمقراطية ترتكز على شكل من المؤسسات العصرية المطعمة ببعض حقوق الإنسان، والمرتكزة في الوقت نفسه على جذر استبدادي في صورته الأصلية
ولاشك أن بحث قضية الاستبداد وحكم الغلبة في الواقع العربي يكتسب أهميته من حقيقة أساسية مؤداها أن منطق الحياة لم يعد يقبل استمرار صيغة توفيقية مفتعلة لواجهة ديمقراطية ترتكز على شكل من المؤسسات العصرية المطعمة ببعض حقوق الإنسان، والمرتكزة في الوقت نفسه على جذر استبدادي في صورته الأصلية.
بيد أنه قد تكون هناك حاجة ماسة في هذا الإطار لطرح نوع من “الاستدراك” بشأن قضية الاستبداد في العالم العربي. ومن ذلك على سبيل المثال، أن الاستبداد ليس “حالة عربية محضة” بالمعنى “الطبيعي” الذي يفضي إلى استثناء الذهنية العربية من دورات التطور الديمقراطي.
بالعكس فإن الاستبداد مفروض تحت وطأة شروط وظروف قابلة للتغيير إذا ما توفرت قوة الدفع المناسبة.
من ناحية أخرى، فإن قضية الاستبداد بما هي حالة مركبة، والمقترب الذي يمكن استخدامه في معاملتها هو بدوره معقد ومتنوع، فإن ذلك يعنى أنه يمكن وصف الخوض في هذا الأمر على أنه من قبيل “المغامرة المحسوبة”.
هذه “الإشكالية/المغامرة” تنبع صعوبة التصدي لها من أنه من غير الممكن معالجة الزوج “الاستبداد/الديمقراطية” بمعزل عن تأثيرات وضغوط النماذج التي تعودنا التفكير في ظلها وتحت تأثيرها.
هذا، في الوقت الذي أصبحت فيه هذه القضية -أي الاستبداد في الواقع العربي- تحتاج في معالجتها لأقصى درجة يمكن الوصول إليها من “الموضوعية” والانصراف إلى الواقع الحي مباشرة.
بعبارة أخرى، ونحن نعيش في ظل مناخ ملتبس، تصدمنا فيه “السياسة”، ويشدنا فيه “المقدس” -المقدس بالمعنى الشامل- وترنو أنظارنا نحو أنماط مثالية نتصور أن فيها الحل الأمثل لأزمتنا المستحكمة، ألم يعد من الملح أن نتجاوز حدود الفكر الذي لم نتجاسر على تجاوزه من قبل، وأن نطرح من القضايا ما لم نطرحه، ومن ثم نكتشف هذه “الحلقة الخبيثة” التي تجعلنا ندور حول أنفسنا دورة كاملة، في كل مرة، لنعود أدراجنا إلى نقطة البداية.
ولكن، هل يمكن حقا تجاوز الفكر المسموح، وطرح القضايا التي لم تطرح من قبل، أليست المسألة في النهاية تتعلق بالسياسة، أي حكم وحاكم ومحكوم، أي سلطة تتربص بالجميع؟
إنها حقا مغامرة، ولكن لا مناص عن المحاولة.
فالاستبداد قضية سياسية يستشعر أكثرنا آلامها، “وهو صفة لحكومة مطلقة العنان” تتصرف كما تشاء وتتعدد أشكاله كالغلبة أو الوراثة. وهو ضد الحرية ويسد أبواب المشاركة في إدارة شؤون الحياة، وهو حالة مركبة تنعكس على المجتمع والدولة والاقتصاد. وفي الشطر الاقتصادي منه تكون العلاقة بين الغني والفقير هي علاقة القوي بالضعيف. ويسمح الاستبداد بتوثيق العلاقة بين الدين والسياسة ورجال المال لاستبعاد وإقصاء الخارجين عن دائرتهم.
وفى حالة الاستبداد، تضعف “السياسة” وتضمحل لتطفو المراسم الشكلية ومظاهر الأبهة والسلطان بهدف فرض الهيبة التي تتحول إلى تقديس وخوف. وبالطبع فلا مكان هنا للمساءلة أو المحاسبة أو المطالبة، فقط السماح بالتماس الرضا أو البركة أو تجنب الظلم أو تحصيل بعض نعم السلطان.
وفى الواقع العربي، يذعن الناس للسلطة ليس لأنهم مطبوعون على الخضوع ولكن بسبب التسلط وبسبب أجهزة العنف التي تملكها السلطة وأساليب القهر والقمع وتهديد مصادر الرزق.
وفى الآونة الأخيرة تشيع فكرة أن الدولة التسلطية لا حل لها إلا تولي قوة أجنبية إسقاطها!
لا مبالغة بالقول إن المحصلة النهائية للاستبداد المزمن وإعادة إنتاجه هي مجتمعات تعاني الركود والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والتفاوت الخطير في توزيع الثروة الوطنية وفجوة تتسع يوميا بين الأغنياء والفقراء، وفقرا يتنامى يوما بعد يوم، ومزيدا من الجماهير المهمشة التي تفقد تدريجيا حسها الوطني والسياسي. وفي إطار ذلك كله، فإن السمة الوحيدة الباقية للمجتمع هي أنه مجتمع يفقد تدريجيا السيطرة على شروط بقائه واستمراره .
فإذا ما وسعنا مجال النظر إلى ظاهرة “التهميش” في حد ذاتها بما تعنيه من احتكار السلطة والانفراد بعملية اتخاذ القرار، واستبعاد باقي فئات المجتمع من دائرة المشاركة، ومصادرة حقوق الإنسان فإن المحصلة العامة تتمثل في إصابة الفعل السياسي بالشلل والعجز والضمور وعدم مواكبة متغيرات الحياة بسبب عدم تجديد الرؤية السياسية والاجتماعية التي تحتكرها “جماعة الحكم” أيا كان سند الشرعية التي ترتكز عليها.
ومع اقتران ظاهرة التهميش الاجتماعي والسياسي ببقاء “الحاكم” على مقعد الحكم بصفة مؤبدة وليست مقيدة، وفي إطار لا يعترف بالتعددية السياسية أو يسمح بتعددية مقيدة وغير مجدية، مع انعدام فرصة تداول السلطة، فإن هذه الحالة من شأنها تنمية مشاعر “تقديس الذات وعصمتها لدى جماعات الحكم” مما يفضي في التحليل النهائي إلى ضحالة الأداء السياسي والاجتماعي وانصراف الجماهير عن الاهتمام بشؤون الوطن وتفشي الاستبداد في أكثر صوره عنوة وصرامة.
إن الأنظمة السياسية والاجتماعية في الواقع العربي تأخذ المظهر الحداثي، مع أنها تنطوي على كل ما يتناقض مع حرية المواطن. وفي هذا الإطار تستمر المنظومة السلطوية موزعة بين النظم الحاكمة والاستخدام المشوه للدين بالإضافة إلى الذراع الإعلامي. فالنظم تصادر الحرية أو تحجر عليها بذريعة الأمن والاستقرار وحفظ النظام العام والحقيقة أنها تعني استمرار الأمر الواقع. والحريات الدينية المتطرفة تصادر الحرية تحت دعاوى التكفير وتهمة الضلال..
وإذا ما أضيف إلى ذلك علاقات الارتباط أو التحالف بين نخب الحكم والهياكل التقليدية (طائفية– عشائرية) لوجدنا أن أرضية التسلط تستمر فى إنتاج ذاتها، مما يفضى إلى إضاعة كل فرص التغيير الإيجابي واختناق روح الاستنارة والنهضة والإصلاح والتحديث.
وإذا كانت هناك، في نهاية المطاف، فسحة من الأمل يتعين التمسك بها، مهما كان الأمر، فلن تكون إلا من خلال من تتوفر لديهم إرادة دفع الثمن.. أعني ثمن الحرية.