تميز القرن التاسع عشر بظهور جملة من الأدباء على أرض روسيا كان لهم ثقلهم في عالم الأدب
ويعد تولستوي أبرز هؤلاء الأدباء في السرد القصصي والروائي لما تميز قلمه بالاسلوب الرصين والوصف الدقيق للمجتمع الروسي أبان تلك الحقبة .
وقف تولستوي مدافعا عن الحق والعدالة ، فشن حربا شعواء على العبودية والاستبداد في وقت كان فيه حكم القياصرة شديد الوطأة على صدور الرعية .
ورغم أن تولستوي كان ينتمي الى أسرة اقطاعية لها صيتها وجاهها فانه كان في قرارة نفسه يكره هذا الانتماء ، فتراه يجالس الفلاحين ويحادثهم ويأكل معهم ، وهذا ما أثار حفيظة أسرته عليه سيما زوجته التي تعتد باستقراطيتها .. مما أدى الى أن تسوء العلاقة بينهما .
كان تولستوي انسانا متواضعا بسيطا ، يرق قلبه لما آل اليه الفلاحون من فقر وعبودية وما يقع عليهم من غبن وظلم .
لذا سخر قلمه في أكثر قصصه للدفاع عن هذه الطبقة المسحوقة التي تعامل معاملة الرق .
كتب تولستوي الكثير من القصص والروايات ، ولا يسعنا في هذا المقام أن نستذكر كل ما خطه يمينه بل نكتفي بالاطلاع على روايتين اعتبرهما النقاد من أجمل رواياته عمقا وتأثيرا .
ففي رواية ( آنا كارنينا ) يصف تولستوي الأجواء لأسرة ارستقراطية لها نفوذها وتطلعاتها ..
حيث تعيش ( آنا كارنينا ) في هذا الجو الصاخب وسط حفلات يقيمها القصر بين حين وحين حيث يغلب على هذه الحفلات اللهو والمجون .
( آنا كارنينا ) هذه لها زوج له ثقله السياسي .. رجل ترك لامرأته الحرية المطلقة فيما تفعل ، فهو مشغول بما يتطلبه منصبه السياسي من أعباء .. وكانت العلاقة بينهما باردة باهتة رغم أن لهما ابنا وحيدا لم يتجاوز العاشرة كان من المفترض أن يزيد من قوة هذه العلاقة .
تلتقي آنا كارنينا بضابط شاب وسيم في احدى الحفلات التي يقيمها القصر فتقع في هواه ، لقد انساقت اليه سريعا وكأنما كان قلبها ينتظر هذه الساعة ليخفق خفقاته بعد حرمان طويل من مثل هذه العاطفة المتأججة وكأنما كانت عاطفتها في سبات لم يستطع الزوج ايقاظها .
وكان الفتى المعشوق يُسمعها عبارات الغزل حتى يُخيل اليها أنها كانت قبل هذا تحيا حياة مجدبة.
لاحظ الزوج فتور زوجته منه ، ولاحظ أيضا أنها عاشقة متيمة للفتى الوسيم .
حاول أن يثنيها عما تفعل وهددها مرة ومرات لكن ذلك لم يجد نفعا معها ، بل تمادت لتهجر القصر بما فيه زوجها وولدها ، هاربة مع عشيقها الى موطن آخر .
غير أنه لم يمض وقت طويل حتى تكتشف أن فتاها قد بدا عليه الملل والفتور ليذهب مع أخرى زاعما أنه يروم الزواج بها .
حينئذ فحسب تستفيق آنا كارنينا من الحلم الذي احتواها ، فاذا بدنياها قاتمة ، واذا بها قد ضيعت زوجا وابنا جراء نزوة استحوذت على كيانها .. حينئذ فحسب يلوح الندم على امارات وجهها بعد أن تعثرت خطاها وبعد أن خانت قدسية الزواج .
ماذا عليها الآن أن تفعله .. لقد كان انتحارا فيما فعلته من قبل ، الآن عليها أن تواجه الموت بشجاعة ، لذا قررت أن تنهي حياتها .. أن تنتحر ، فلما أبصرت القطار قادما من بعيد تهيأت لهذه اللحظة وما أن اقترب حتى رمت بنفسها أمام عجلاته .
وهكذا كانت نهايتها .. نهاية محزنة هي التي اختارتها بنفسها .
لقد أجاد تولستوي في رائعته آنا كارنينا حتى بلغ الأعالي في ذلك الوصف المتألق لهذه الأسرة الارستقراطية .
فاذا انتقلنا الى رواية ( الحرب والسلام ) رأينا فيها نمطا آخر من الوقائع .. انها أجواء حرب قاسية فُرضت على روسيا من قبل عدو لا يرحم هو نابليون ، وما أدراك من نابليون ، انه القائد الذي دانت له أوربا بغزواته وفتوحاته ، وها هو الآن يتجه الى روسيا لقهرها ويمضي قدما في أراضيها الشاسعة ، لكن القيادة الروسية آثرت أن تسحب جيوشها وتتراجع .. خطة محكمة ليقع نابليون في الفخ أمام برد قارص وأراضي قاحلة ومؤونة بدأت تنفد وجنود بدأوا يتساقطون اعياءا وجوعا مع قسوة مناخ ، ليخسر نابليون أكثر من نصف جيشه في عملية زحف فاشلة .
ورغم أجراس الحرب المهددة لكيان الدولة الروسية ، فان السلام فرض نفسه آخر الأمر ، وأن بعض المدن الروسية لم تعبأ بما كان يحدث في بعض الجبهات .. فقد كانت في منأى عما يلوح به نابليون .
ذلك أنه في الجانب الآخر ظلت الحياة تسير سيرها الطبيعي بما فيها من علاقات تتخللها حفلات لهو وعبث وقصص حب .
لقد أراد تولستوي أن يقول لنا أن الحرب طارئة وان السلام هو ما ينشده الناس .
ان الحرب تترك وراءها خرابا ودمارا واستنزافا للثروة والأرواح ، أما السلام فهو طمأنينة وأمل وعمران وحضارة .
حازت رواية الحرب والسلام على ثناء النقاد بما فيها من مفارقات في ساعة الحرب حينا وساعة السلم حينا آخر ، وكأن تولستوي وهو الأديب يحمل مجهرا فاحصا يرى من خلاله أجواء المعركة بكل تفاصيلها .
الواقع أن تولستوي له رؤية إنسان يحب العدل والتسامح والسلام ويبغض الظلم والعدوان .
لقد كان قلبه يحمل نبضات حب قوية لأسرته سيما لزوجته التي كدرت صفو حياته آخر الأمر مما دفعه أن يفر من هذا الجو المتأزم لتنتهي هذه الحياة بميتة تشق على النفس .. بعيدا عن الأسرة وفي حجرة محطة قطار ، أجل هناك لفظ آخر أنفاسه ، غير أن أدبه ظل من بعده له حظوته اللائقة ومكانته الرفيعة في قلب كل من يعشق دنيا الأدب .