يسعدني دخول فكرة ومصطلح الدولة الحضارية الحديثة حيز النقاش العام. لان انتشار المصطلح والنقاش حوله والاختلاف فيه من الخطوات المهمة في حركة المجتمع نحو الدولة الحضارية الحديثة كهدف اعلى للمجتمع العراقي.
مؤخرا، دعا الاعلامي والكاتب المعروف الاستاذ عبد الحليم الرهيمي الى اقامة دولة “المواطنة والنزاهة والعدالة” للعراقيين، بعد ان ناقش الدعوات الاخرى مثل الدعوة التي اتبناها الى الدولة الحضارية الحديثة حيث قال: “اما البعض الذي يرى ان حل الازمة والصراع يتحقق باقامة الدولة الحضارية الحديثة بركائز اربع لا غير ويحددها باوصاف غير عملية وبتوصيفات مجرد على المقاس الذي يريده فلا هو يقترب من رؤية واقعية للازمة”.
وفي تعاملي مع هذا النص لابد ان اذكر ان من خصائص النقاش الحضاري التركيز على نقاط الاتفاق والانطلاق منها الى معالجة نقاط الاختلاف عملا بالمنهجية التي يطرحها القران الكريم في قوله:”قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ”.
وقد وجدت اول نقطة اتفاق في دعوة الاخ الرهيمي هي مبدأ المواطنة الذي جعلته الركيزة الاولى ضمن ركائز الدولة الحضارية الحديثة.
واما نقطة الاتفاق الثانية فهي العدالة، وقد جعلتها في كتاباتي من الاهداف الاساسية للدولة الحضارية الحديثة اضافة الى السعادة و الحرية والمساواة وتحسين الخدمات وغيرها.
وكذا الامر فيما يتعلق بالنزاهة. وهذه نقطة الاتفاق الثالثة.
اما نقاط الخلاف في مقالة الاستاذ الرهيمي فهما اثنتان فقط، اولاهما قوله ان “ركائز الدولة الحضارية الحديثة اربع لا غير”. وهذا غير صحيح. فلطالما كتبت ان ركائز الدولة الحضارية الحديثة خمس وهي: المواطنة، الديمقراطية، القانون، المؤسسات، واخيرا العلم الحديث.
واما نقطة الخلاف الثانية استخدامه الغامض لعبارة “على المقاس الذي يريده”. وهذا غير صحيح. فلطالما ذكرتُ ان الدولة الحضارية الحديثة اتجاه تاريخي عام قابل للقياس، وذكرتُ ان هناك مؤسسات دولية غير ربحية كثيرة تُعنى بقياس جوانب كثيرة من الدولة الحضارية الحديثة على مستوى عالمي مثل قياس السعادة، وسيادة القانون، والحرية، والهشاشة، وغير ذلك الكثير.
ان الدولة الحضارية الحديثة ظاهرة عالمية، وليست فكرة من اختراعي الخاص، وان مجتمعات كثيرة اخذت بالسير في الطريق المؤدي الى الدولة الحضارية الحديثة مثل الدانمارك والسويد وهولندا وسنغافورة وماليزيا واليابان ونيوزيلاندة وغيرها الكثير. والقول بان الدولة الحضارية الحديثة اتجاه تاريخي قابل للقياس، وانها ظاهرة بشرية عالمية، يشجع المجتمع العراقي على الاخذ بهذه الدولة كهدف اعلى يسعى الى تحقيقه.
لقد دعوتُ في مناسبات كثيرة النخبة المثقفة في المجتمع العراقي الى تبني هذا المصطلح والفكرة والدعوة اليهما وتثقيف المجتمع على مضمونها من اجل دفع المجتمع العراقي الى السير في هذا الطريق لانني ارى ان الدولة هي نتاج حركة المجتمع، وليست نتيجة قرارات حكومية فوقية، وان النخبة المثقفة، او الاقلية المبدعة كما يسميها توينبي، هي التي تقود حركة المجتمع في هذا الاتجاه.
ومن هنا دعوتُ الاقلية المبدعة مرارا الى بذل الجهود المترابطة التي يكمل بعضها البعض الاخر من اجل تثقيف المجتمع بالامور الكثيرة المتعلقة بفكرة الدولة الحضارية الحديثة، لان الاقلية المبدعة هي الشريحة الاجتماعية الوحيدة التي يمكنها القيام بذلك. وانا اذ اذكر ذلك فاني استحضر اسماء معينة محددة من الكتاب القادرين على تولي هذه المهمة. واليوم اجد ان الاستاذ الرهيمي قد اسهم بجهد مشكور في التثقيف بفكرة الدولة الحضارية الحديثة ومصطلحاتها.